حسام ابراهيم يكتب عمار على حسن وبيت السناري.. بين الزمان والمكان
هذا المكان "كزمان مصري متجمد" يتأثر في زمن الرواية بقوى متعددة ضمن مشهد كبير للصراع الاقليمي بل والعالمي مابين فرنسا وبريطانيا ناهيك عن الاتراك العثمانيين والمماليك
وكذلك يرصد مؤلف رواية “بيت السناري” دقائق ومصطلحات مستخدمة في مهن كتبييض النحاس ودباغة الجلود ويرسم مشاهد لأحد الآباء الثقافيين المصريين وهو المؤرخ الشهير “الجبرتي” الذي عرف طريقه لبيت السناري بعد ان تحول الى مستقر لعلماء وفناني الحملة الفرنسية.
واذا كان عمار علي حسن قد قدم سردا رائعا لثورتي المصريين ضد قوات الاحتلال الفرنسي في القاهرة فمن المفارقات السعيدة ان “بيت السناري” اليوم احد بؤر الاشعاع المعرفي-الثقافي بعد ان امسى مقرا لأنشطة تنهض بها مكتبة الأسكندرية في القاهرة المعزية وان تبقى من الحملة الفرنسية في مصر جوانب ثقافية لها قيمتها الايجابية في التنوير وحوار الحضارات.
وفي هذا النص الأدبي الجديد الحافل بالجمال والمعاني العميقة نجح عمار علي حسن في تشويق القاريء ليلهث في “رحلة المسير والمصير”لابراهيم كتخدا السناري الذي جاء لمصر ضمن الرقيق المجلوب ويبدأ رحلة الصعود المثير من القاع كحارس عقار للسلطة التي اقترب من قمتها في زمن المماليك بعد ان اصبح من اهم عناصر النخبة المقربة لمراد بك الكبير عشية الحملة الفرنسية على مصر عام 1798.
ومن الطريف والدال معرفيا ان يسعى مؤلف الرواية لعقد نوع من المقارنة بين ابراهيم السناري وشخصية تاريخية اخرى شهيرة هي شخصية كافور الاخشيدي كما حفلت رواية “بيت السناري” باشارات حول “احوال المحبوبة” وسر حبها للسناري.
وقد يهتم القاريء اكثر “برحلة المسير والمصير” لزينة بطلة رواية “بيت السناري” التي جاءت في 362 صفحة من القطع المتوسط ناهيك عن “الخبيئة” المدفونة تحت درجة من درجات السلم داخل بيت السناري والتي باح ابراهيم كتخدا بسرها لزينة وصديقه الشيخ الأزهري “زيدان الخضيري” والتي لم يعرف احد في الواقع مصيرها بعد ان ذهب كل في طريق وقتل ابراهيم السناري غدرا من جانب ممثل “الباب العالي” او سلطة الاتراك العثمانيين “حسن باشا القبطان” .
وقد يشعر القاريء ايضا بكثير من التعاطف مع الشاب المصري “حسن الجعيدي” الذي يحب حقا زينة منذ نعومة الاظفار في ملاعب الصبا القاهرية التي جمعتهما خلف مسجد السلطان حسن ويتمنى لو انتصر على غريمه الضابط الفرنسي “دوبريه” الذي يريد “زينة” لنفسه كصورة طبق الأصل من حبيبته الفرنسية الراحلة “ايلين” كما يشعر بالشفقة حيال هذا الشاب العاشق الذي يتفانى في تلبية رغبات زينة ويركب الخطر ليوصل رسالة لابراهيم السناري في وقت قتال ومواجهات بين الفرنسيين والمماليك.
وقصة الضابط الفرنسي “دوبريه” الذي وقع في هوى “زينة” دالة في سياق رصد العلاقات الاجتماعية بين الغازي الفرنسي وابناء البلد من المصريين فيما يعبر عمار علي حسن عن رؤيته للشعب عندما يقول ابراهيم السناري بعد ان احتدم النقاش حول مايجب ان يفعله المماليك في مواجهة الغزاة الفرنسيين :”القوة في يد ساكني الشقوق, هؤلاء حين يملأون الشوارع لن يستطيع احد صدهم ولا ردهم, انهم مارد جبار”.
وهذه الرواية الممتعة تجود بنفحات من التاريخ الثقافي وتسبح صفحاتها في بحر من الفن والجمال لتشكل عملا إبداعيا يعيد الاعتبار للحكي التاريخي في المسار الروائي العربي المعاصر فيما لم تخل من “مفاجآت ومفارقات درامية” مثل اللقاء بين السناري وحسن جعيدي دون ان يعرف احدهما الآخر بينما “الحصان الأبلق” يتجه نحو سيده السناري المتنكر في صورة قروي يبيع البصل والفجل خشية الوقوع في قبضة الفرنسيين .
ورواية “بيت السناري” التي تنهل من التاريخ وتستلهم منه عناصر فنية ومضامين متعددة الدلالات والمعاني حافلة بصفحات دالة على الظلم الذي تعرض له المصريون من جانب الأتراك العثمانيين والمماليك ومن صور هذا الظلم ماكان يعرف “بالفردة” التي تفرض على ابناء البلد وجلهم من الفقراء و”قوت هؤلاء الغلابة الذين يدبون في الشوارع كنمل جائع”.
والسؤال الاليم يتردد في هذه الرواية التاريخية الابداعية بشأن حقبة مظلمة في تاريخ مصر عندما يتساءل صاحب حسن الجعيدي قبيل معركة فاصلة على ابواب القاهرة مع قوة الغزو الفرنسي:”منذ متى كانت بلدنا؟..اكل الترك لحمها واهدوا العظام للمماليك وتركونا جوعى” .
فالرواية التي انطلقت من “لحظة يقف فيها الفرنسيس على ابواب القاهرة” فيما عجزت السلطنة التركية العثمانية ووكلاءها من المماليك الذين يمصون دماء المصريين عن دفع الغازي الغربي و تنطوي على العديد من التفاعلات ويوظف فيها الكاتب رؤيته للمجتمع والقيم والعالم بمقتربات ثقافية وجمالية ونفحات حب لمصر “التي لاينتهي حبها من قلب ابنائها الشجعان” كما قالت زينة لحسن الجعيدي.
وفي الوقت ذاته يلفت الدكتور عمار علي حسن في هذه الرواية لأهمية الأخذ بأسباب التقدم “فماذا تفعل السيوف والعصي والبلط والفؤوس في مواجهة المدافع والبنادق الحديثة للقوة الغازية القادمة من الغرب” ؟!.
نحن أمام “رواية معرفية تاريخية ابداعية” بطلها الأول هو المكان كزمان متجمد والزمان كمكان سائل” والبعد الجمالي ظاهر في الرواية من خلال لغة شاعرية وبصرية ومشهدية في الوقت نفسه، وراو عليم وقدرة على الوصف، سواء من الخارج أو من داخل نفوس أبطال الرواية وشخصياتها.
وماكان لعمار علي حسن ان يغفل في روايته الجديدة تفاصيل تتعلق بالنساء في ذاك العصر وهو يتناول زوجات وجواري السناري القادم من احراش سنار ليصبح رقما هاما في معادلة السلطة والثروة ويدفع ثمن مشاركته في لعبة السياسة الخطرة .
واذ لايخفي عمار علي حسن اعجابه واكباره للأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ فان روايته الجديدة “بيت السناري” مضمخة احيانا بأنفاس محفوظية وصور قلمية تظهر تأثرا بهذا الأب الثقافي المصري مثل قوله :”وصلنا الى مشارف قصر العيني والشمس تنتحر على مشانق غربية حبالها زرق وسود وريح تندلع وتزمجر فجأة في وجه السكون”.
وهذا هو التعامل الايجابي مع الموروث الابداعي والثقافي لكاتب في قيمة وقامة نجيب محفوظ الذي يكن له عمار علي حسن الكثير من الحب والاعجاب فهو مرتبط ابداعيا بمدرسة نجيب محفوظ دون ان يسقط في فخ التقليد او يحرث ماسبق حرثه وانما يمتاح من معينه الخاص ومخزون تجاربه الشخصية ويكتب بشعوره الطازج طارحا رؤى جديدة.
ومن الدال والايجابي ان يوظف الدكتور عمار علي حسن خبراته الثقافية في مجالات متعددة من بينها علم الاجتماع لتتجلى في رواية ” بيت السناري” التي تقيم بالفعل جسرا عريضا بين التاريخ والخيال يجتازه القاريء محلقا بأجنحة المتعة في فضاء المدهشات وبين خيوط فاتنة من نسيج سردي محكم.
انها رواية “لبيت يولد من التاريخ” بخيال مبدع مصري ادرك ان الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد..عمار علي حسن: “للمبدع ان يحلق من الأفق للأفق وان يحول التاريخ لمتعة ومعرفة تضيء لنا الطريق” .
