د. محمد محمود أبوعلي يكتب الأَثَرُ البَاقِي فِي دُنْيَا الفَنَاءِ مُحْيِي الدِّينِ مِحْسِب وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ

0

الأَثَرُ البَاقِي فِي دُنْيَا الفَنَاءِ مُحْيِي الدِّينِ مِحْسِب وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ

بقلم  د. محمد محمود أبوعلي

لقد كان الدكتور محيي الدين محسب صاحبَ رؤيةٍ منهجيَّةٍ واضحةٍ في دراساتِهِ منذُ مرحلةِ الماجستير التي حصل عليه سنة 1982م؛ إذ بحثَ في التأثيرِ الخارجيِّ في النحوِ العربيِّ في كتابِ سيبويه ، في الفصلِ الأوَّلِ من أطروحته للماجستير في موضوعِ (أثرُ المنطقِ الصُّوريِّ في نُحاةِ القرنِ الرابعِ الهجريِّ)؛ وكان يميلُ إلى أنَّ هناك تأثيرًا خارجيًّا في النحوِ العربيِّ، مُستأنِسًا برأي المُستشرقِ الهولندي (كيس فرستيغ) في كتابه (عناصرُ يونانيةٌ في التفكيرِ اللغويِّ عندَ العربِ)، وظلَّتْ المراجعاتِ العلميَّة لديه مستمرةً إلى أنْ قدَّمَ ترجمةً لبعضِ فصول كتاب فرستيغ في عام 2001م، وقَدَّمَ له بدراسةٍ فَنَّدَ فيها فرضيَّة فرستيغ، وهو ما يُمثِّلُ تراجعًا عن وجهةِ نظرِهِ السابقةِ في مرحلةِ الماجستير. لقد كان الدكتور محسب مشغولاً بالفكرِ اللُّغويِّ الإنسانيِّ بصفةٍ عامَّةٍ، ويبحثُ عن وجودِ التفكيرِ اللُّغويِّ العربيِّ في التاريخِ اللُّغوي الإنسانيِّ ، فلا يقفُ عند ما قَدَّمَه الدرسُ التراثيُّ العربيُّ مُتعصِّبًا له دونَ وعيٍ أو تمييزٍ لِما يتفقُ أو يختلفُ مع الفكرِ اللُّغوي الإنسانيِّ، ولا ينظرُ إلى الدَّرسِ اللِّسانيِّ الغربيِّ نظرةَ إعجابٍ مُسلِّمًا به، مُندفعًا وراءَ جديدِهِ ؛ وإنَّما يُمحِّصُ وينقدُ ويُعارضُ ويتَّفقُ ويختلفُ ويُحلِّلُ ويُفسِّرُ، فنراه مثلاً في سياقِ عرضِ فرضيَّةِ (وورف) التي تُمثِّلُ في شكلٍ منهجيٍّ متواليةً من الدراساتِ والاختباراتِ والمُقارباتِ بين أنظمةٍ لُغويةٍ مختلفةٍ ، وأنساقٍ ثقافيَّةٍ مُتباينةٍ ، فإنه لا يقفُ موقفَ المُعجبِ بتلك النظريةِ التي خالفَتْ النظريةَ الأرسطيَّةَ التي ظلَّتْ مقبولةً
د. محى الدين محسب
ومُهيمنةً عبرَ تاريخِ الدرسِ اللُّغويِّ الإنسانيِّ مدةً طويلةً، وأصبحتْ نقطةَ تحوِّلٍ جديدةٍ في الفكرِ اللُّغويِّ الإنسانيِّ. إنه يحاولُ أنْ يلفتَ الانتباهَ إلى ملامحِ الفكرِ العربيِّ التُّراثيِّ من خلالِ المناظرةِ المشهورةِ بينَ النحويِّ أبي سعيدٍ السيرافي (ت 368 هـ)، والمنطقيِّ أبي بشر متي بن يونس (ت 360 م)؛ إذ يرى أنها محاولةٌ لم تُستثمَرْ في شكلٍ منهجيٍّ لتطويرِ موقفٍ نظريٍّ يعتمدُ أساسًا فلسفيًّا متماسكًا، ويستمدُ استدلالاتِهِ من واقعِ نُظُمٍ لُغويَّةٍ متغايرةٍ ؛ لأن رصدَ بعضِ هذه الملامحِ والتوجُّهاتِ له أهميةٌ تاريخيَّةٌ في تصحيحِ الدَّعاوي الغربيَّةِ من سيطرةِ النظريةِ الأرُسطيَّةِ عبرَ مسيرةِ الدرسِ اللُّغويِّ الإنسانيِّ ، حتى جاءتْ نظريةُ وورف، وهو ما يقطعُ فترةَ ازدهارِ الحضارةِ العربيةِ في التاريخِ اللُّغويِّ الإنسانيِّ، وفي ذلك ظلمٌ للحضارةِ العربيةِ على ما فيها من إنجازات، وهو ما يراه غايةً يُحلِّقُ حولها بجناحين، أحدهما من خلالِ النظرةِ الشموليَّةِ الواعيةِ للتراثِ العربيِّ ؛ التي يثبت من خلالها فضلُ الحضارةِ العربيَّةِ فيما يثبتُ لها بالفعل، ولك أن تنظرَ في كتابِ (علمِ الدلالةِ عندَ العربِ .. فخر الدين الرازي نموذجًا) وهو عملٌ تأصيليٌّ معرفيٌّ لجوانبِ النظريَّةِ الدلاليَّةِ في الفكرِ اللسانيِّ العربيِّ ، يُقدِّمُ فيه الدكتور محسب صورةً متكاملةً لبنيةِ النظريةِ الدلاليةِ العربيةِ مُنطلقًا من الأُطُرِ الدلاليةِ الثلاثة: الاشتقاقي والعقلي والاجتماعي؛ التي أسَّسَتْ مفهومَ اللغةِ في الفكرِ العربيِّ، ولذلك لم يقتصرْ الدكتور محسب على التحليلِ الدلاليِّ عند اللغويين والنحاة؛ لأن ثمة معالجاتٍ وتأمُّلاتٍ تتَّسمُ بقدرٍ كبيرٍ من العمقِ والأصالةِ وحسنِ التمثلِ للثقافاتِ الوافدةِ لدى بيئاتٍ فكريَّةِ أخرى ؛ كالمتكلمينَ والأصوليينَ والمُفسريينَ والفلاسفةِ وغيرِهم، ومن ثَمَّ فإنَّ الدكتور محسب من خلالِ رؤيته المنهجيَّةِ هذه يرى أنَّ الإحاطةَ بجهودِ هؤلاء جميعًا تُعطي صورةً دقيقةً ومتكاملةً ، ومعه كلُّ الحقِّ في ذلك عن الفكرِ اللُّغويِّ العربيِّ. وثانيهما الإفادةُ من الفكرِ اللغويِّ الحديثِ، ولك أن تقرأَ كتابَ (اللغة والفكر والعالم) لتكتشفَ مزيدًا من العلاقةِ بين اللُّغةِ والسِّياقِ الثقافيِّ، من خلالِ رؤيته لِلُّغةِ بوصفها ظاهرةً ثقافيةً تتشكلُ برؤيةِ أصحابها، ووعيِهم وإدراكاتِهم، وتقومُ في الوقتِ نفسِه بتشكيلِ عواملِ الاستمرارِ لهذه الرؤية، ولا يعني ذلك أنَّ اللُّغةَ تُسيطرُ سيطرةً حاسمةً على تشكيلِ النَّسقِ الثقافيِّ كما ذهب وورف، وإنَّما بوصفها فعاليةً بنيويةً تقوم فيها اللغة بدورين: دورِ الحاملِ لخبرةِ نمطٍ ثقافيٍّ ، ودورِ المُرسِّخِ لاستمرارِ هذه الخبرة، وهي فاعليةٌ ليست مغلقةً ونهائيةً، وإنَّما تقبلُ أنْ تتحورَ وأن تتشكلَ
حوار باسم بين د. محمد ابو على والكاتب الصحفى يسرى السيد ويتابع الحوار د. محى الدين محسب
د. محسب ويسرى السيد ود. وداد نوفل ود. محمد ابو على
    لتُعيدَ صياغةَ علاقاتِهَا الداخليَّة وفقَ ما تُمليه تحولاتُ الخبرة. إنَّ موضوعيَّةَ الدكتور محيي الدين محسب في دراساتِهِ تشهدُ له بالوعيِ والتعمقِ في جذورِ التراثِ العربيِّ، والإلمامِ بكثيرٍ من قضاياه، كما إنَّ متابعتَه للحركةِ العلميَّةِ اللُّغويَّةِ الحديثةِ في الفكرِ اللُّغويِّ الغربيِّ مكَّنتْهُ من إعادةِ قراءةِ قضايا التراثِ بشكلٍ علميٍّ دقيقٍ، وفي دراسته (التحليل الدلالي في الفروقِ اللُّغوية لأبي هلالِ العسكري ؛ دراسة في البنيةِ الدلاليةِ المعجميةِ لمعجمِ العربية) دليلٌ على ذلك، تلك الدراسة التي أخذتْ بنظرةِ التعميمِ في تحديدِ موقفِ أبي هلال العسكري من قضيةِ الترادفِ كما كان في الدراساتِ السابقةِ لهذا الكتاب، إلى جانبِ التحليلِ الداخليِّ المُعمَّقِ للإسهامِ التأليفيِّ الواحد، وهذه المنهجيَّةُ التي يسعى إليها محسب هي منهجيةٌ ذات صبغةٍ تكوينية، أي تستهدفُ الوصولَ إلى تحديدِ النموذجِ العامِ الذي يحكمُ المؤلفَ عند تناوله لهذه القضية من خلالِ منهجٍ قوامُهُ ضَمُّ العناصرِ المتناثرةِ، وتحديدِ سماتِها المشتركة، واكتناهِ أُسسها المعرفيةِ على حدِّ تعبيره، مُستفيدًا في ذلك من نظريتي “المجالاتِ الدلالية”، و”المكوناتِ الدلالية”، ويرى في ذلك أنَّه يمكن أنْ يُفيدَ المعرفةَ اللسانيةَ الإنسانيةَ عمومًا، والمعرفةَ العربيةَ على وجه الخصوص. ويأخذُنا الدكتور محيي الدين محسب إلى نظريةٍ حديثةٍ جدًا ما زالت في مرحلة التطوُّرِ ؛ ألا وهي الإدراكيَّةُ كما يُرجِّحُ ترجمتها بذلك عن المصطلح الإنجليزي (cognitive) ، وهو لا يقفُ عند مجردِ عرضٍ لعناصرِ هذه النظريةِ الحديثةِ إلى التساؤلِ عن كيفيةِ الإفادةِ من الرؤى الجديدةِ في الفكرِ اللُّغوي العالميِّ في مقالته الخامسةِ من كتابِ (الإدراكياتُ .. أبعادٌ إبستمولوجيةٌ وجهاتٌ تطبيقيةٌ) ، إذا يتساءل في هذه المقالةِ عن سؤالٍ يراه أساسيًّا ؛ هو: هل هناك إمكانٌ لقيامِ نقدٍ أدبيٍّ جديدٍ يُسمَّى النقدُ الأدبيُّ الإدراكيُّ، ثم يرى أنه لا يُمكنُ أنْ يوجدَ مصطلح الشعرياتِ الإدراكيةِ ، لأنها تنحصرُ في دائرةِ لغةِ النصوصِ الأدبيةِ والاستراتيجياتِ اللُّغويةِ الإدراكيةِ التي يستعملُها القراء، ممَّا يَسِمُها بطابعِ الأُحاديَّةِ التفسيريةِ ، وكذلك يستبعدُ مصطلحَ الأسلوبياتِ الإدراكيةِ ، لوقوعِ الجدلِ حولَ حقيقةِ انتمائِهِ ، هل هو يقع ضمن اللسانياتِ الإدراكيةِ أم علمِ نفسِ القراءةِ الإدراكي، وعليه فإنه يستقرُّ على مصطلحِ النقدِ الأدبي الإدراكي؛ لأنه يُجارِي بعضَ الدراساتِ التي أرخَتْ لهذا التوجُّهِ العلميِّ المُسمى بالزواجِ الإبستمولوجي، كدراساتِ ألان ريتشاردسون، ووسبولسكي. إنني في هذه النظرةِ السريعةِ لم أُرِدْ أنْ يكونَ كلامي عن الأستاذ الدكتور محيي الدين محسب كلامًا مرسلاً؛ وإنَّما أردتُ أنْ ألفتَ الانتباهَ من خلالِ إشاراتٍ بسيطةٍ جدًا إلى شيءٍ من إنتاجِهِ العلميِّ الرصينِ في خدمةِ اللُّغةِ العربيةِ ، مستعينًا بوسائلَ شتى مكَّنتْهُ من أنْ يتركَ بصمةً واضحةً مُخلصةً مكَّنتْه أن يبقى حيًّا بآثارِهِ وعلمِهِ النافعِ في دُنيا الفناءِ. رَحِمَ اللهُ أستاذي العالمَ النبيلَ أد. محيي الدين محسب رحمةً واسعةً وأسكنه فسيحَ جناتِهِ مع النبيينَ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحَسُنَ أولئك رفيقًا. اللهم آمين     اللهم آمين.

لقطات من احد المؤتمرات العلميه فى جامعه الاسكندريه 

     
   
   
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights