د. محيي الدين محسب يكتب ل مصر المحروسة . نت : ممارسة الخطاب
أي ممارسةُ لأي خطابٍ إنما هي عملية تُزْجيها التصوراتُ الإدراكية الموجِّهة لمُنْتِجِهِ ومتلقيه خلال جَدَلِ علاقاتهما مع المرجعيات الذهنية والثقافية المعبَّأة بعلامياتها الإدراكية، وبدلالاتها الأيديولوجية. وفي هذا السياق ثمة اعتناءٌ مكثف بفكرة الدلالة الضمنية في الخطاب. وهو اعتناء يلتقي مع ذلك المبدأ السيميائي الذي صاغه بيرس حين قال “كل فكرةٍ هي علامة”؛ أي أنها أمر يستلزم التفسير والتأويل. كذلك فإن هذا الاعتناء يتجاوب مع التاريخ الممتد للاعتناء المعرفيّ بمفهوم (ضمنيات القول واستلزاماته implicatures). فهذا المفهوم – منذ أن سك فيلسوف اللغة الشهير بول جرايس H. P. Grice (1913- 1988م) صيغته المصطلحية – أصبح أحد المفاهيم الأساسية في التداوليات؛ وذلك بدلالته على “الظواهر المتعلقة بجوانب ضمنية وخفية من قوانين الخطاب”. فالخطابُ في تصورنا هو ممارسةٌ غرَضية في سياق. ولقد ميَّز ويدوسون ببراعة بين (النص) و(الخطاب)؛ حيث أشار إلى أن النص هو استعمال اللغة من أجل غرض معين، وهذا الغرض التواصلي – الذي هو رسالة النص- هو الخطابُ الساري في أوصال هذا النص. ومن ثم فهناك ارتباط وثيق بين الخطاب ومكر المقاصد، ومراوغات اللاشعور، ومهارة التلاعب والإخفاء والتستُّر؛ أي بإيجاز: هناك انعكاسات الرغبة ومصالح الأيديولوجيا. ولقد علّمنا هاليدي أنه في كل موضعٍ من النص ثمة اختيارٌ نسقيٌّ له معناه، سواءٌ أكان اختيارًا بين وحدتين معجميتين قريبتين من الترادف، أم بين ممارستين للتسمية مشحونتين أيديولوجيًّا، أم بين تشكلاتٍ مختلفة للتعدية، أو للموجهيّة، أو للبنية الموضوعاتية…إلخ.
ولأن الحقيقة الملموسة هي أن “الحقيقة تأبى الحصر” على حد تعبير الفيلسوف الصوفي العربي الكبير (ابن عربي)؛ فإن حقيقة الخطاب ليست استثناء من هذه القاعدة الإبستمولوجية. ولقد تجسدت هذه الإبستمولوجيا بصياغات مفاهيمية متعددة في عصرنا الحديث. وفي صدارة الاتجاهات المؤسسة لهذه الإبستمولوجيا كانت مدرسة فرانكفورت التي دَلَّل روادُها على أنه “ليس من الضروري القولُ بوجود معنىً، أو تفسيرٍ، عميقٍ خبيئٍ صحيحٍ داخل الخطاب… فقد يكون هناك كثير من التفسيرات المتنافسة”. ولقد كان هذا التدليل، أو الاستدلال، ماثلًا أمام محاولاتٍ معرفية أرادت أن ترسخ لمبدأ (الصِدْقيَّة validity) في التفسير. ولعل أهم هذه المحاولات ما جسده كتاب (هيرش E. D. Hirsch, Jr.) المؤثِّر (الصدقية في التفسير) الذي صدر عام 1967م؛ حيث أراد فيه مقاومةَ فكرة التعددية المفتوحة للتفسيرات؛ لأنها تقوض إمكان قيام معرفة تأويلية؛ حيث تؤدي – في تصوره – إلى هيمنة الذاتية والنسبية؛ ومن ثم إلى غياب أي مبدأ للحكم على صدقية تفسير دون تفسير. ومع ذلك فإن دلاليات هيرش لم تستطع أن تستبعد هذه التعددية التفسيرية وإن نَسَبَتْها إلى مقولة (المغزى) دون مقولة (المعنى). فالمعنى اللغوي عند هيرش هو “نمط ٌ مُرادٌ يعبر عنه المؤلف بالرموز اللغوية، وعن طريق هذه الرموز يفهمه شخصٌ آخر”. وفي المقابل فإن (مغزى النص) هو العلاقة بين المعنى وشخصٍ أو مفهومٍ أو موقفٍ أو أيِّ شيءٍ يمكن تخيلُه”. فالمغزى يفترض دائمًا علاقة ضمنية بأمرٍ آخر. ولقد طور هيرش نظريته التفسيرية في كتابه اللاحق عام 1976م (أهداف التفسير)، ثم في عدد من المقالات الأخرى، لتقل حدةُ التقابل بين المعنى والمغزى. ولقد حدث هذا التطوير تحت ضغط مقاربات نقدية من جهات عدة. ولعل أهم هذه الجهات رفض جادامر للتمييز بين (المعنى) و(المغزى)؛ حيث إن (المغزى) عنده لا يشير إلى علاقة عارضة بين المفسِّر والمعنى، وإنما هو يكشف عن الكيفية التي يؤثر ويتأثر بها المعنى في موقفٍ معينٍ للمفسر. وفي مسار أخذ التداوليات بـ(السياق) على أنه مبدأ تفسيري للدلالة تمَّ إقرار حقيقة أن “الحساسية السياقية context-sensitivity والمغزى الإدراكي cognitive significanceظاهرتان لا يمكن الفصل بينهما”.
وفي سياق الإرهاصات والنشأة الخاصين بالتحليل النقدي للخطاب يستلفت نظرنا من هذه الصياغات مفهومُ يكافئ قاعدةَ ابن عربي التي أشرنا إليها ولكن بشرط استبعاد تضميناتها الميتافيزيقية. وأنا أعني بذلك مفهومَ (التعدُّديَّات الكيفية Qualitative multiplicities) عند الفيلسوف الفرنسي المرموق جيل دولوزGilles Deleuze (1925- 1995م)؛ حيث التركيز على “خصوصيات الفرادة في كل مجتمع، أو لغة، أو سياسات، أو فرد”، هذا المنظور المعرفي كان جيل دولوز قد بدأ طَرْقَ بوابته منذ عام 1964م في أطروحته للدكتوراه عن الاختلاف والتكرار، ومن ثم ظلَّ يؤكد أنه “ما من وجود إلا لكَثْراتِ ما هو مؤثرٌ، وكثراتِ قوىً وعلاماتٍ وتوجهات”. ومع ذلك فـ(السياقات) تبدع التمايز والاختلاف. وهذا النسغ المعرفي بدأ يتصاعد حضورُه في النظرية الاجتماعية بعد ذلك؛ فوجدنا في السبعينيات كليفورد جيرتز مثلًا يشبِّه العالَمَ الاجتماعيَّ بـ(شبكة من المغزى)؛ أي “شبكة من المعاني الاجتماعية الثقافية والتاريخية التي تجسِّد وتعبر عن القيم والعادات والموروثات والرموز الدينية والممارسات السياسية…إلخ”. ومن ثم أصبح “التحدي المفتاحَ بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية يكمن في حقيقة أن العالم الاجتماعي هو بشكل فطريٍّ عالمٌ ذو معنى، وأنه من ثمَّ يجبُ تفسيرُه“؛ حيث “إن البشر في مجرى الحياة اليومية دائمًا ما يكونون في حالة تفسيرٍ للعالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه”.
ولا شك أن أصداء كل ذلك بدأت تتردد وتقوى وتتسع في سياق اتجاهات ما بعد الحداثة حيت نجد أن أرقى ما قدمته هذه الاتجاهاتُ هو تأكيدها على أنه “في أي سياقٍ ثمة رهاناتٌ عديدة، وممارساتٌ عديدة، وطرقٌ عديدة، في إنشاء هذا السياق أو في الاستجابة له”. وفي هذا السياق بدأت فلسفة (التعدد المنظوري perspectivism) التي شيَّدها نيتشه – في نقدياته critique الراديكالية للثقافة والميتافيزيقا والفلسفة الغربية – والتي كان على رأس أسسها التصورُ بأن “الواقع ليس إلا منظورًا إنسانيًّا معينًا”، أقول: بدأت هذه الفلسفة تشكِّل تغذيةً قوية لأطروحات أعلام ما بعد الحداثة.
بيد أن الحقيقة أيضًا أن أمر الالتفات إلى مقاصد الخطاب والاحتفاءَ بدرْسِه لم يكن أمرًا إبستمولوجيًّا محضًا. لقد كان ثمة تحولاتٌ على صعيد التواصل والاتصال في أرض الواقع العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. ولندع محرري كتاب (اللغة والتفسير والتواصل) يعطيان صورة مركزة من هذه التحولات؛ حيث يشيران إلى تكاثر المنظمات الدولية، وإلى الملتقيات الدولية التي تجمع الهيئات المهنية والعلمية، وإلى اتساع حركة السفر الدولي، وكذلك إلى الزيادة المطردة في قدرات تسهيلات الاتصال الآلي واستعمالاتها، كل ذلك قاد إلى تعاظم الاعتماد المتبادل بين البشر؛ ومن ثم إلى وجود اعتمادٍ أكبر على مهارات المفسِّرين والمترجمين لتيسير التواصل عبر الحدود اللغوية. ولعل بقاء هيئةٍ مثل هيئة الأمم المتحدة إنما يعتمد بشكل حاسم على الخدمات اللغوية. والسؤال هنا هو: ما أول مقتضى يترتب على مثل هذه التحولات؟ والجواب يقدمه كلود نامي في الكتاب نفسه حيث يشير إلى أن التفسير والترجمة في كل هذه الأطر التواصلية “لا يمكن أن يعتمدا على الكلمات فحسب. فثمة ما هو أكبر من ذلك: ثمة المعرفة بالخلفية الثقافية للمتكلم، وبمقاصده، وبدوافعه”. وبصياغة أخرى نقول: إن واقع هذه التحولات على الصعيد التواصلي الإنساني قد فرض ضرورةَ الالتفات إلى تقنيات الخطاب واستراتيجياته ومقاصده.
وهكذا بدأ يتصاعد الوعي والإدراك بأن الخطاب– في سعيه لتحقيق غرضه – يلوذ بوسائلَ وتقنياتٍ متعددة يتمّ تفسيرها وتأويلُها وفق (كفاءة الاستقبال receptive competence)، ومن ثم وفق (كفاءة القـــراءة Reading competence) لدى المتلقي. وبطبيعة الحال فإن مفهوم (المتلقي) يستدعي بالضرورة مفهوم (المرسِل) الذي هو – بدوره – يصدُر عن كفاءة تواصلية يجسدها خطابُه. وحيث إن أي تواصلٍ اجتماعي يجعلنا في موقع من الموقعين – موقع المرسل أو موقع المتلقي- فإن كل تواصلٍ هو بطبيعته (خطاب). وباختلاف الكفاءات، وتنوع السياقات، يكون اختلاف تفسيرات الخطاب. وبما أن الإبستمولوجيا هي “تفسير آليات الفهم الإنساني”. فكل تفسير للخطاب إنما هو ممارسة إبستمولوجية. ومن هنا تأتي أهمية مايقوله فوكو: “في كل مجتمع فإن إنتاج الخطاب يتم التحكم فيه، واختيارُه، وتنظيمُه، وإعادة توزيعه، وفقًا لعدد معيَّنٍ من الإجراءات التي يكون دورُها هو تجنب قوة الخطاب وخطره، والتغلب على مفاجآته، وتفادي ماديته الباهظة المخيفة”.
وأتصور أننا بالاشتغال من هذا المنطلق نقدم إسهامًا في الدفع باللسانيات العربية صوب الخروج من تلك الدوائر الشكلية – الوصفية أو التوليدية – التي يتم فيها عزلُ الاستعمالات اللغوية عن سياقها الطبيعي؛ وهو سياق التواصل؛ أي سياق الخطاب. ولقد تم التدليل بالقدر الإبستمولوجي الرصين على مفهوم (الكفاءة التواصلية) التي هي كفاءة تتسم بالشمول الذي لا يقصرها على معرفة مستعمل اللغة بقواعدها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وإنما يشمل أيضًا كفاءات محايثة أخرى تتعلق بالمنطق والإدراك والسياق الاجتماعي والمعرفة بالعالم. وأتصور أن القسمة الثلاثية التي طور بها كانال وسوين Canale & Swain مفهوم (الكفاءة التواصلية) منذ أن طرحه ديل هايمز 1972م تمثل أهمية خاصة بالنسبة لتحليل الخطاب. فكل ممارسة خطابية تستلزم لكي تنجح تواصليًّا أن يكون لدى طرفي التواصل قدرة نحوية، وقدرة لغوية/ اجتماعية، وقدرة استراتيجية. وإذا كانت القدرتان الأوليان واضحتين فإن القدرة الثالثة تشير إلى استعمال اللغة لإنجاز أغراض تواصلية ولتعزيز فاعلية التواصل. وهذه بالتأكيد هي غاية كل خطاب. ولذلك فقد نهض لدى كانال وسوين هذا الربط بين (الخطاب) ومتطلباتِ هذه الكفاءات الثلاث من خلال الرؤية التكاملية التي طورا بها مفهوم (الكفاءة التواصلية) على أساس أنه “ليس ثمة مسوغٌ نظريٌّ أو احتباريٌّ قويٌّ يدعم الرأي الذي يذهب إلى أن الكفاءة النحوية هي أكثر أهمية بالنسبة للتواصل الناجح من الكفاءة اللسانية الاجتماعية أو الكفاءة الاستراتيجية”.