أشرف ضمر يكتب : معدة مصر و هزيمتى الأولى

0

مصر لها معدة ثقافية عملاقة لا يتخيل أحد مدى اتساعها وقوتها، تلك المعدة قادرة على هضم كل معقد وعميق وشائك، كذلك تهضم كل ما هو مريب ودخيل وتافه، وكأي معدة تعمل في إطار منظومة هضمية، تحول المفيد من هذا وذاك، إلى دماء ثقافية وفيتامينات عقلية، في مزيج مدهش ومتفرد من الأصالة والمعاصرة، بينما تتخلص من الغث والرث حالما اكتشفت تفاهته، على مدار التاريخ حدث هذا ويحدث الآن وسيظل يحدث طالما يعيش المصريون على وجه البسيطة، وكشأن أي معدة أيضا، قد يحدث لها إعياء من فرط تناولها أطعمة مجهولة المصدر، ووجبات سريعة تبدو طازجة/ صاخبة/ مغرية ورخيصة، لكن سرعان ما تتقيأها لتتعافى من سمومها.
إن أشد ما يضحكني، تلك الحملات الشعواء على الفن الهابط، والأدب (شعر وقصة ورواية) الهابط، والرقص الهابط، وكل ما هو هابط في معدة مصر الشديدة، حيث إنني لم أتورط أبدا في الانضمام إلى فرق أصدقاء البيئة ولا لجان مكافحة الفن الهابط، ولا تشكيلات الوصاية على الذوق العام، كذلك لم أضبط نفسي- ذات يوم- متلبسا بالترويج للسينما النظيفة والفن الهادف والكتابة العميقة، بل كنت- وسأظل وسأبقى- متبنيا لثقافة الدفع والتدافع، وسياسة الفرز والتنقية، مؤمنا بضرورة تجاور الضدين ليفضح كل منهما الآخر، وليؤكد طغيان حضور أحدهما فداحة غياب الثاني.
هي دورة الزمن وطبيعة الأشياء وقوة الهوية المصرية وجبروت الشخصية المصرية ورسوخ شجرتها المثمرة أطيب الثمار وأخبث الآفات، معا.
كل ما على المثقفين الآن- بدلا من شن حملات مناوئة للفن الهابط والانضمام لحملات الدفاع عن الذوق العام من التدني- أن يقدموا ما يرونه هادفا، أن يروجوا لبضاعتهم وفنونهم، عليهم محاربة التدني بالرقي، مكافحة الانحطاط بالسمو، لا بالتحقير والاستعلاء والطبقية الفكرية.

هزيمتى الأولى

لم يكن تعلقي بالشعر- منذ البداية- محض اختيار، أو رفاهية، بل كان حربًا تصورتُ أنني يجب أن أخوضها حتى النهاية/ الهزيمة،

بدأ الأمر بضرورة أن أخبر زملاء الصف في الدراسة عن فوائد مسالمة الزهور، وعدم قطفها من أحواض المدرسة، فعلاوة على أن الزهور لا يجب أن تقطف؛ كما تعملنا في كتاب القراءة (درس أمل وعمر في الحديقة)؛ وقصة أبلة فضيلة عن بنت السلطان وابن البستاني، فنحن من غرسناها ورويناها وأوليناها عناية فائقة في حصص الزراعة، وراقبنا نموها يومًا تلو الآخر، حالمين بأرواقها وشذاها- وحتى أشواكها- حين تنمو ويقبل الندى جبينها- الزاهي الملون- كل صباح،

كان هذا موضوع أول قصيدة نظمتها بأحاسيس طفل في مدرسة موسى بن نصير الابتدائية المشتركة بروض الفرج، وبحماس تلميذ انضم لفريق أصدقاء البيئة (فرقة مكافحة أعداء الزهور)، ولكم حزنت حين لم تؤتِ قصديتي الحماسية ثمارها! وتَحوَّل حوض الزهور إلى أوراق ذابلة يتقاذفها التلاميذ في الفسحة، وإلى باقة رديئة التغليف على مكتب الناظر، بعدها بيومين وجدتُ جثث زهوري في الصندوق الحديدي الأخضر الذي أحال دخان الحريق جوانبه إلى أسود بشع، كانت جثث الزهور تحترق مع أكياس البسكويت الحكومي وأوراق أخرى رسمية ممزقة إلى قطع صغير تشبه عصافير الجنة التي كنا نلعبها، لكن أي عصافير وأي جنة؟ أي حماقة رومانسية ارتكتبها بكتابة الشعر لمكافحة أعداء الزهور؟
عن هزيمتى الأولى تلك كتبت قصيدة وصببت فيها اللعنات على الأعداء جميعهم، على مدرس الزراعة الذي أهدى زهورنا للناظر، وعلى الناظر الذي قبل الهدية وأعطاها- بامتعاض- للدادة لتلقيها في صندوق القمامة خلف حمامات المدرسة، وعلى الدادة التي رحبت بالمهمة لأن الزهور حين تذبل وتموت تزيد من مهام التنظيف مهمة هي في غنى عنها، وعلى جامعي القمامة وهم يشيعون زهوري لمثواها الأخير، وعلى الشياطين زملائي في الصف الذين ضحكوا وقت إلقاء قصيدتي الأولى واتهموني بالسذاجة، وعلى فريق أصدقاء البيئة الذي لم يحرك ساكنًا وصديقته (البيئة) تغتصب أمامه بمنتهى الوحشية، وعليَّ أنا أيضًا؛ لأنني أحببتُ الشعر والزهور والبيئة، ولم أجنِ من كل هذا إلا قصيدة مزقتها، جبنتُ ولم أتجرأ على إذاعتها في طابور المدرسة.


صار الشعر هو استراحة المحارب المهزوم، ثرثرت كثيرًا- عبر قصائدي- عن الحياة والموت والأم والأسرة، عن الحب والأصدقاء والطرق الطويلة، عن الانكسارات الكبيرة والانتصارات الخاطفة، عن روض الفرج كجنة نموذجية وجحيم مثالي، عن شوارعها وناسها وحكاياتها، عن قصر ثقافة روض الفرج وأعضاء نادي الأدب، وعن جيلي جيل بوابة الألفية الجديدة الذي كان قدره أن ينحشر حشرًا بين قرنين، عظيم ينتهي ومجهول يبدأ، كنا النواة التي سندت زير العولمة، كنا القماشة البالية التي سدت ثقب سفينة القرن الواحد والعشرين التي ما إن أبحرت حتى ترنحت وتأرجحت وأوشكت على الغرق بأحداث كارثية (إرهاب الثلاثاء 11 سبتمبر 2001) غيرت وجه العالم للأسوأ والأبشع.
بعد هذا العمر المديد من الشعر، أتساءل: ما هو الشعر؟ هل هو قناع أرتديه بوقار فارس مهزوم يسير بين جنوده/ أصدقائه/ أسرته/ أطفاله/ حبيبته؟ أم هو الوجه الحقيقي للرجل الذي عركته الحياة ولاكته بين أسنانها الحادة وضروسها القوية وأنيابها المفترية، وحين وجدته مرًا غير مستساغ الطعم تقيأتْه وبصقتْه كعصف مأكول لا هو حي ولا هو ميت؟

Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights