هل يدفع محمد محفوظ الانصارى ثمن مقال الأب محفوظ الانصارى :لقد أطاحت الثورة بمن تسببوا وساهموا. وصنعوا قرار خروجي…جمال مبارك طلب مني ألا أنقل ما يقوله الرئيس

هل أصبحت مصر. دولة يحكمها "الأشباح"؟.. "شبح" لديه الشرعية. بينما لا يملك من أمور نفسه والدولة شيئاً.

0
ننشر هذا المقال يوم 16 – 06 – 2011 اليوم.. أعود ل “الجمهورية”.. بعد غياب.. أعود للدار الصحفية العريقة.. وأعود “للمهنة”.. وكنت قد قررت “هجرها” بعد ما يقرب من خمسين عاماً عاملاً في بلاطها. كان ل “الجمهورية” الجريدة. وحدها نصف عمري الصحفي. 24 عاماً كاملة.. السنوات العشر الأولي “محرراً دبلوماسياً”. من عام ..1959 وحتي العام ..1969 ثم 14 عاماً متصلة. من صيف العام ..1984 وحتي خريف ..1998 كرئيس للتحرير. الغريب.. هو أنني كلما أخذتني الظروف بعيداً عن الجريدة أو البيت بعض الوقت طال أو قصر سرعان ما أجد ظروفاً مغايرة تعيدني من جديد.. ذلك دون ترتيب أو حساب.. فها هما العزيزان محمود نافع رئيس التحرير. وسعد هجرس الكاتب اللامع يطبقان الحصار “الإنساني” علي شخصي وأنا في حالة ضعف جسماني نتيجة عملية “قلب مفتوح” ويقنعاني بالعودة إلي المهنة أساساً. ومن خلال العودة إلي الدار.. إلي “الجمهورية” تحديداً. والحق أقول.. إنني لا أدري. ما إذا كانت هناك قدرة باقية تؤهلني للعودة للكتابة.. وللممارسة من جديد لمهنة وحياة عمل استغرقتني نصف قرن. ربما شجعني هذا الهجوم الكاسح علي عالم الصحافة والإعلام علي عدم التردد. والعودة بثقة. فهذا العدد الضخم ممن دخلوا الساحة كتاباً. ومفكرين ومعلقين.. وأصحاب أعمدة يومية. ومقالات أسبوعية.. من شأنه الدفع بي نحو التفاؤل. فلا قواعد. ولا معايير.. وكل من لفظته مهنته أو وظيفته. بحكم “السن” أو غيره.. يمكن أن يصبح كاتباً.. مفكراً.. معلقاً.. كل من يسعي إلي الظهور والشهرة. فالطريق مفتوح وسهل.. وهو الإعلام. ليس مهماً عندها أن تكون خلفيتك مؤهلة. لما أنت مقدم عليه.. فلا مانع أن تكون تاجر حديد.. أو سيراميك. أو سمساراً.. ولا مانع أن تكون طبيباً أو مهندساً. أو مدرساً. أو مقاولاً أو غير ذلك. النتيجة.. أن عدد الكتاب والمعلقين. أصبح أكثر من عدد القراء والمشاهدين. في الكثير من الحالات. هذه الظاهرة الجديدة والمرعبة أفزعتني. بقدر ما سهلت العودة فلا قواعد. ولا معايير. فالهجوم علي منابر الرأي والفكر كاسح.. من داخل المؤسسات الإعلامية.. كما هو من خارجها. المهم في النهاية أن حصار سعد هجرس. ومحمود نافع قد نجح.. وها أنا أعود وأكتب.. أو أحاول. وعلي وجه اليقين. لم يكن لمسعي الصديقين محمود. وسعد. أن ينجح. دون قيام الثورة النبيلة والفريدة. وما خلفته من أمل. لقد أطاحت الثورة بمن تسببوا وساهموا. وصنعوا قرار خروجي من المهنة في إطار إشاعة الفوضي العامة.. وفي كل موقع وأنا هنا. لا أحاول أن أسرد “سيرة ذاتية”.. أو أحكي قصة تجربة شخصية. إنما أحاول أن ألقي بعض الضوء. علي جوانب من الثورة وتأثيراتها الإيجابية من خلال التجربة الشخصية التي خضتها.. “بطلا التجربة” الآن في سجن طرة. * أحدهما ابن لرئيس سابق.. * والثاني رئيس سابق لمجلس شبه نيابي.. التهم الموجهة لكل منهما عديدة.. متنوعة.. مشينة.. لم تترك إثماً إلا واقترفته. وظني أن بطلي قصتنا هما أكبر المساهمين في انهيار النظام السابق وسقوطه. ليس فقط بسبب فسادهما.. ولكن المؤكد أن الغباء والجهل مغلفان بالغرور قد أكملا المنظومة.. بعد أن غيبا بالكامل “رأس الدولة”. ونعود لبداية القصة.. أو بالأحري.. نهايتها. دق جرس التليفون في ساعة مبكرة من الصباح.. رفعت السماعة.. وجاء صوت الجانب الآخر:
  • صباح الخير.. أنا جمال مبارك.. ما هذا الذي كتبته في الأهرام.. وما هذه “المانشيتات التي تغطي الصفحة الأولي.. وجميعها خاطئ وكاذب”.
  • قلت.. أنا لا أكتب في الأهرام.. ونشرة الوكالة التي أتولي رئاستها. نشرة داخلية. للمشتركين. وليس بها مانشيتات ولا عناوين مثيرة.. أو غير مثيرة.
  • قال: كيف هذا.. رئيس الأهرام قال لي الآن وفوراً إن ما هو مكتوب في الأهرام. هو كلامك أنت ومصدره الوكالة.
  • قلت: ربما تقصد اللقاء والحديث الذي جري بين الرئيس. وبين رؤساء التحرير. منذ عدة أيام بالطائرة الرئاسية.
وهنا يظهر أن الفتي لم يكن موجوداً في مصر.. وعاد يتعامل مع تقارير عملائه التي أعدت له.
  • المهم.. بغضب شديد قال: كيف تسمح لنفسك أن تكتب وتؤكد أن الدستور لن يعدل.. وأن المنادين والمتحدثين عن التعديل أبواق تردد كلمات حق يراد بها باطل. وكان هذا المقطع الأخير. أحد العناوين التي اختارها الأهرام للمانشيت.
  • قلت: لست أنا ولا الزملاء من أثار وتحدث عن الدستور وتعديله. أو عدم تعديله.
رئيس الجمهورية هو الذي اختار موضوع الدستور وتكلم فيه ودون أن يسأله أحد.. وأكد أنه لن يسمح بالتعديل تحت أي ظرف ومهما علت أصوات من أطلق عليهم “القلة”. وبالمناسبة.. اللقاء تطرق لموضوعات شتي.. وليس فقط الدستور وتعديله.. وكل ما قيل تم نشره. في الصحف. وأذيع في التليفزيون والإذاعة. وجاء رد فعل “الفتي” علي هذا الشرح. غريباً ومستفزاً. وبعيداً عن كل منطق.
  • قال: طيب.. خلاص. صدقنا أن هذا ما قاله الرئيس.. أنت تنشره. وتذيعه. ليه؟ خاصة أنه خطأ. وغير صحيح. وستتغير بعض بنود الدستور بأسرع ما يمكن.
  • قلت: كيف لنا أن نعرف أن ما يقوله الرئيس صحيح أم غير صحيح.. وهل يجوز لرؤساء التحرير أو غيرهم أن يكونوا رقباء علي رئيس الدولة.. وعلي أي حال إذا كانت هناك أمور محل خلاف بين قيادات الدولة فمن الأفضل أن تضعوا الصحافة في الصورة.. علي الأقل تلميحاً لا تصريحاً.. لنتجنب سوء الفهم. والوقوع في الخطأ.
  • فجاء رده كالمدفع:
هل تظن أننا “فاضيين” للصحافة.. وعلي كل.. ما كتبتموه عن الدستور وتعديلاته غير صحيح.. وستحدث التغييرات بأسرع مما تتخيل..
  • وعلي فكرة أضاف أسمع أنت وزملاءك. الجلسات المطولة والمفتوحة التي كان يعقدها الرئيس معكم. انتهت ولن تتكرر. أيضاً الأحاديث التليفونية التي لا ضوابط لها. وتخوض في كل شيء. ستتوقف. ولن يسمح بها بعد الآن.
لحظة هذا الحديث التليفوني المفاجئ. لم أستطع تبيان هذه الحدة.. وهذا الغضب في لهجة. مبارك الابن والوريث. لكن سرعان ما تكشف كل شيء.. فالشاب في عجلة من أمره.. يريد أن ينتهي من عملية تجهيز المسرح للقفز علي السلطة. وتحويل الحديث عن التوريث إلي واقع. خاصة أن ملامح الخطة. كانت قد وصلت من “الخارج” ومستندة علي فكرة أساسية. هي “تعديل دستوري” جذاب.. وأكثر ديمقراطية.. يقضي بأن يكون اختيار رئيس الجمهورية الجديد بالانتخاب المباشر وليس عن طريق الاستفتاء.. هذه الصورة التي نتعامل معها. تطرح العديد من الأسئلة: هل كان الرئيس يعلم بما يدور في الخفاء حينما تحدث لرؤساء التحرير عن رفضه القاطع لتغيير الدستور؟ هل انتقلت سلطة اتخاذ القرار. من رئيس الدولة. إلي الوريث و”شلة” التوريث.. وأصبح الرئيس الشرعي لا يملك من أمور نفسه وأمور الدولة شيئاً. هل أصبحت مصر. دولة يحكمها “الأشباح”؟.. “شبح” لديه الشرعية. بينما لا يملك من أمور نفسه والدولة شيئاً. “رئيس شبح”. لا يحتل من الناحية الرسمية والفعلية. أي منصب. ولا يتولي في الدولة والحكم أية مسئولية.. ولا يخضع لمراقبة أو محاسبة.. وهو قبل هذا وبعده الحاكم بأمره.. هكذا كانت الأوضاع.. أو ما صارت إليه. صاحب الشرعية. غائب. أو مغيب. و”سارق” الشرعية.. أضعف. وأجبن من أن يتقدم أو يجاهر ويضع نفسه موضع المسئولية الحقيقية. وتحولت إدارة البلاد إلي “مؤامرة”. تجري تفاصيلها في الخفاء.. ويتم اختيار أبطالها وفرسانها. من الطامحين. والطامعين. والسراقين. والجهلاء. وسط هذا الجو الفاسد.. جري تحالف مشبوه بين الداخل والخارج.. وكل له برنامجه. وأجندته.. وكل منهما في حاجة إلي مساندة الآخر. الساعي إلي السلطة “بالتوريث” في حاجة إلي دعم الخارج ومساندته.. وعلي استعداد لتقديم أي ثمن. والباحث من الخارج عن إضعاف مصر. وإغراقها في مشاكلها.. لا يتردد في تقديم العون لمن يتولون هذا الدور في الداخل.

وسط هذا الجو الفاسد.. جري تحالف مشبوه بين الداخل والخارج..

وكل له برنامجه. وأجندته.. وكل منهما في حاجة إلي مساندة الآخر.

من هنا شاهدنا وعشنا. حالة التفكيك. والإشغال والإلهاء. التي تم دفع مصر إليها.. بشكل متصل. خلال العقد الأخير. علي الأقل.. أو منذ ظهر “الوريث” علي السطح.. وتعددت خطط التفكيك وتنوعت.. واتسعت لتغطي كل قطاع.. ولم ينج منها نشاط.. صناعي أو زراعي. أو خدمي.. وانتشرت “كتائب التخريب” والنهب في طول البلاد وعرضها هذا “المشروع” الكبير.. لابد له من “كتائب إعلامية محاربة”.. كتائب تُؤمر. فتطيع.. تنفذ الأوامر والتعليمات دون نقاش أو مراجعة.. خاصة أنها في الأصل لا تدعي المعرفة.. ولا ترغب فيها.. ومن هنا كان الاختيار. من هنا كان “القرار” تغيير رؤساء المؤسسات الصحفية القدامي.. جميعاً.. وبلا استثناء أو تمييز. وقتها لم يكن مهماً. البحث عن البدلاء. وكفاءاتهم وقدراتهم.. إنما المهم هو إبعاد هؤلاء الذين ربطتهم بالدولة وأجهزتها. وقياداتها. وحتي مشروعاتها. علاقات تعاطف. ومحبة وقربي.. بصرف النظر عن العديد من التجاوزات.. أما الوافدون الجدد فترويضهم سهل.. علي هذه الأسس. واستناداً إلي هذه الخلفية.. بدأت عملية التنفيذ.. التي تولاها ثلاثة.
  • صفوت.. جمال.. وزكريا..
اتصل زكريا بجميع رؤساء المؤسسات الصحفية ورؤساء التحرير.. ما عدا رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط أحاطهم علماً بقرار التغييرات الصحفية.. وناقشهم في أسماء المرشحين الجدد. الذين يمكن أن يتولوا المسئولية. خلفاً لهم. شارك صفوت في هذه الاتصالات أيضاً. ليؤكد أنه الرجل المسئول عن الإعلام. كرئيس للمجلس الأعلي للصحافة.. وليقول للجميع إنه شريك أساسي في اللعبة.. وإن الدفع بزكريا لإجراء الاتصالات مع رؤساء المؤسسات. إنما ليترك انطباعاً لدي الجميع. أن القرارات القادمة. قرارات رئاسية. تعكس إرادة “الرجل الكبير”. وتمثل اختياره الشخصي. وقتها.. امتلأت سماء الإعلام بأخبار التغييرات. ونشطت الشائعات في ترويج أسماء المرشحين الجدد.. لكن فيما يخص وكالة الأنباء ورئيسها.. لم يتصل أحد.. ولم تروج أو تتردد أسماء. وفجأة تحدث إليَّ اثنان من سكرتارية الرئيس..
  • الأول نقل إليَّ رسالة تقول: “تعلم أن هناك حركة تغيير شاملة في المؤسسات الصحفية جميعاً.. إلا أن الرئيس قد استثني من هذه التغييرات. الوكالة فستظل كما أنت.. لكن لا تتحدث إلي أحد في هذا الموضوع.
  • بعد أسبوعين أو أكثر قليلاً.. اتصل بي سكرتير آخر للرئيس.. يسأل باسم الرئيس عن موضوع تتناقله الأنباء ويريد تفاصيل أكثر عنه.. كما يطلب الاهتمام بهذا الموضوع من ناحية التغطية الصحفية لأنه يهم مصر.. ثم أضاف: “الرئيس يقول لك. مؤكداً مرة أخري. أن جميع زملائك من رؤساء المؤسسات الصحفية سيجري تغييرهم.. وأنت باق”.
مر يوم أو يومان علي هذا الاتصال الأخير من جانب أحد سكرتارية الرئيس.. وكنا مساء سبت.. ودق جرس التليفون المحمول.. وجاء صوت السيد صفوت الشريف ليزف لي خبر التغييرات.
  • ويسأل “هل اتصل بك زكريا عزمي”
  • قلت لا.. ولماذا؟
  • قال: ألم ينقل لك أنباء التغيير؟!
  • قلت: أظنك ستنقلها لي الآن.
  • قال: علي كل حال “ابتداء من صباح الاثنين بعد غد لا تذهب إلي الوكالة. فقد تم تعيين رئيس جديد”..
  • وأضاف: علي كل حال أنت كاتب متميز. ويمكنني أن أجعلك تكتب في المكان الذي تحب..
  • قلت “لقد أغلقت “دكَُان” الصحافة من هذه اللحظة. ولن أعود إليها.. أما عن الكتابة وأين أكتب فهذا قراري واختياري وليس لأحد أن يقرر أو يختار لي.
اللافت للنظر في هذه المكالمة الغريبة و”الشاذة”. عدة أمور: أولها.. أن القرار الوحيد بالإبعاد. أو الفصل التام من المؤسسة التي يتولي رئاستها.. كان من نصيبي وحدي.. الجميع بقي في مؤسسته. فالإبعاد أو الفصل التام يحرم صاحبه.. من العديد من الحقوق. ثانيها.. أن القرار جاء منافياً. لكل ما نقله إليَّ سكرتارية الرئيس. ثالثاً.. أن الإبلاغ بالقرار جاء قبل التنفيذ المطلوب. بأربع وعشرين ساعة فقط.. ودون مناقشة مسبقة للمؤسسة وأوضاعها. رابعاً.. أن الأسبوع الأخير السابق لقرار “الإقالة”.. قد سبقته نشاطات مشبوهة من الأجهزة.. التي أخذت تروج إشاعات حقيرة. الغريب أن السيد صفوت.. لم يتوقف عند حد.. فقد أعطي تعليماته لرجاله في الصحف المستقلة والحزبية لنشر موضوعات ضدي. وطلب إلي رئيس الوكالة الجديد أن يرفع دعوي قضائية. وذهب الشريف.. أبعد من هذا.. نقل إلي رئيس الدولة أنني أتحداه.. وأنني أرفض قراراته. وطلبني في التليفون أحد أهم مساعدي الرئيس.. ودعاني لفنجان قهوة بمكتبه.. وهو رجل كريم وفاضل. تربطني به صداقة.. أو كانت.
  • وذهبت حسب الموعد.. وإذا به يبدأ حديثه مستفسراً ومستنكراً تصرفي المتحدي لقرارات الرئيس.
وكيف أن الرئيس اختارني ضمن أعضاء المجلس الأعلي للصحافة.. وأنني رفضت تنفيذ هذا القرار. ولم أحضر اجتماعاً واحداً للمجلس.
  • سألته: هل هذا كلام جاد.. هل من نقل هذا للرئاسة ولكم يمكن أن يؤتمن علي شيء؟!.
  • وأضفت: يا سيدي. لم يعقد المجلس الأعلي للصحافة حتي هذه اللحظة. إلا جلسة افتتاحية واحدة لم أحضرها.. وغيري كثيرون لم يحضروا ولكل أسبابه وأنا منهم.. هي جلسة “حلف اليمين”.
يا سيدي صفوت يشن حملة ضدي لا أدري لها سبباً.. لقد خرجت.. ولن أعود للصحافة أبداً.. فماذا يريد.. لقد تركت كل حقوقي بالوكالة.. ولن ألمسها.. ورغم هذا طلب منهم رفع دعاوي قضائية.. وطبع منشورات عدائية ضدي.
  • قال: الحقيقة أن الرئيس هو الذي كلفني بدعوتك والحديث معك.. لأنه طلب التحقيق في كل ما تتحدث عنه واكتشف أنه كاذب ومختلق.. ونحن تحت أمرك.. والرئيس يريدك أن تعود لكتاباتك المتميزة.. ولك أن تختار بنفسك و حسب هواك المكان الذي تريد أن تكتب فيه.. الأهرام.. الأخبار.. أو “الجمهورية”.. وأظن أنهم قد اتصلوا بك.
  • قلت: صحيح.. لقد اتصل بي وعدة مرات خلال الأيام القليلة الماضية رؤساء تحرير الصحف الثلاث.. ملحين في طلب الكتابة عندهم..
  • قال: أين وقع اختيارك إذن؟.
  • قلت: لقد قررت الابتعاد عن الصحافة تماماً ولن أعود.
  • قال: هذا ما لا يمكن أن أنقله للرئيس.
  • قلت: وهذا موقفي النهائي.
وبعد أكثر من ساعتين استأذنت في الانصراف.. وتركت الرجل غاضباً. وبشدة.. إذ كيف أعصي رغبة الرئيس. ولم نلتق أو نتصل حتي الآن رغم ما أكنه له من تقدير وإعزاز. للرجل الذي أراد أن يكون واسطة خير. هذه الشبكة المعقدة من الحكايات.. والتناقضات.. هذا الشذوذ في التصرفات.. وهذا الكذب الفاجر فيما يضر ولا ينفع.. وهذه الأحقاد التي تفرق ولا تجمع.. كلها كانت وقود الثورة. ومفجرها. كلها كانت عربة “المشبوهين” التي حملت أصحابها إلي حيث هم اليوم.. لكن وقبل أن ننتهي من هذه البداية. لحديث سيطول عن مصر الحاضر والمستقبل.. مصر التفاصيل.. أفراداً. ومؤسسات.. رؤي وإبداعات.. في مقابل تضليل وعشوائيات. قبل أن ننتهي.. أحب أن أحذر من سوء فهم. قد يعكسه. السرد السابق.. وهو في مجمله لمسات سريعة لم تذهب إلي العمق.. فكما سبق وذكرت.. أنا لا أقدم سيرة ذاتية. ولا حكايات شخصية.. وإنما هو مجرد اقتراب من “حالة” مصرية. تواصلت حلقاتها ثلاثين عاماً.. شاء حسن الحظ أو سوءه أن أكون قريباً منها. البداية تتلخص في “عنوان عام” “الخروج.. والعودة”. والخروج من مهنة عشتها خمسين عاماً.. وكان الخروج من بوابة شر لا يملك أصحابها رؤية.. ولا علماً أو ذكاء أو معرفة.. هم مجرد أدوات هدم.. هم عمال تراحيل من نوع خاص.. وبأجور تتنوع عملة الدفع فيها. حسب الطلب والمهمة. المهمة.. وببساطة مصر.. كيف يتم القضاء عليها أو حصارها.. المهمة أن تأكل مصر. نفسها بنفسها.. فتتحلل وتذوب وتضيع. ليس من خلال “طرد رئيس تحرير” أو تعيين آخر.. وليس من خلال حالة شخصية.. فلم أذكر فيما قدمت أنني. ربما كنت الوحيد في مصر الذي قدم استقالة شخصية. واستقالة مسببة لرئيس الجمهورية. ورئيس المجلس الأعلي للصحافة في أغسطس عام 1987 واعتكفت في منزلي لأكثر من شهرين رافضاً العودة تحت أي ضغط.. وكنت يومها رئيساً لتحرير “الجمهورية” التي أعود إليها اليوم. في منتصف التسعينيات. قررت الاستقالة من العمل الصحفي أيضاً عقب قرار “مشبوه” بنقلي من رئاسة تحرير “الجمهورية” إلي رئاسة وكالة أنباء الشرق الأوسط.. وجاءني الدكتور مصطفي الفقي قبل إذاعة قرار النقل. لينقل لي عن رئيسه. أن الرهان الآن هو عليك.. الكل متوقع استقالتك. ودون أن يدخلوا في قرار بالإقالة.. ولهذا فهو يرجوك ألا تستجيب وتحقق آمالهم وتوقعاتهم. أحذر أيضاً من سوء الفهم.. وخطأ التفسير.. فيتصور البعض أن طول صبر الرئيس. أو حتي حرصه علي استمراري يعكس علاقة خاصة ومتميزة حيث الواقع يقول غير ذلك.. وعلي سبيل المثال: وصلنا ب “الجمهورية” الجريدة إلي ما يقرب من مليون نسخة توزع يومياً.. مع تقدم نوعي في المادة المنشورة.. وذلك خلال سبعة أشهر من العمل. وجاءت المكافأة أو ذهبت في اتجاه آخر.. تم ترقية أحد الزملاء بالمؤسسة إلي رئاسة مجلس الإدارة. ظلت الجريدة تعمل وتجاهد رغم المؤامرات.. وأصبحت “الجمهورية” صاحبة أهم مقال سياسي في الصحافة المصرية. وكانت المكافأة أو التقدير من نصيب الغير.. لم يكتفوا. بمنح الزميل رئاسة مجلس الإدارة.. بل أضافوا إليه.. رئاسة تحرير “الجمهورية” نفسها. ونقل رئيس التحرير للوكالة. من حق “الظنانين” أو المتشككين أن يتصوروا. أن مكافآت أخري كانت من نصيبي.. المرتب مثلاً.. وهنا وجب التأكيد علي أنني. في الوقت الذي كان يتردد فيه الحديث عن الملايين لبعض الزملاء كمرتب وعمولات ومكافآت شهرية.. في هذا الوقت لم يتجاوز المرتب وحتي نهاية الخدمة رقماً  أخجل من ذكره.
  • ويبقي السؤال: إذا كان الوضع كذلك.. والمعاملة كما وصفت.. فلماذا التمسك بك والحرص عليك.. وحسن معاملتك..؟
  • الإجابة في رأيي بسيطة.. هل هو الجبن والخوف من مواجهة الواقع.. أم أن كل نظام في حاجة إلي قطعة “ديكور” أو أكثر.. هذا الاهتمام بقطع الديكور يصنع الكثير.. يصرف النظر عن العديد من العورات والخطايا.
أيضاً.. وكما كانوا يقولون.. إن هناك مصداقية. وثقة. في بعض الأشخاص.. وبالتالي وجب المحافظة علي أصحابها.
  • ثالثاً.. طالما كانت فوائد وجوده أكثر من ضررها. فلا مانع من الاستمرار.
  • رابعاً.. وهو الأهم.. ظلت هناك رغبة. أو أمل وحتي النهاية أن أصبح من حملة المشاعل وخدم السلطان الراحل والقادم المهم.. وعند هذا الحد.. نتوقف اليوم.. ونقول:
لقد خرجت وتوقفت وابتعدت عن المهنة عند مجئ الأشرار. واليوم أعود بعد الثورة.. ومع من صنعوا معي مجد. “الجمهورية” منذ أكثر من ربع قرن. 
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights