حسام إبراهيم يكتب:عبد الرحمن بدوي: الفيلسوف العبقري والمآساة !!

0
مع اقتراب الذكرى السادسة عشرة لرحيله عن الحياة الدنيا يتجدد الجدل الصاخب حول الدكتور عبد الرحمن بدوي احد المع المثقفين المصريين والعرب ككل فاذا بهذا الفيلسوف الكبير والأكاديمي المتعدد الاهتمامات “يملأ الدنيا ويشغل الناس “.. وعبد الرحمن بدوي الذي ولد في شهر فبرايرعام 1917 ببلدة “شرباص” في محافظة دمياط وقضى في القاهرة يوم الخامس والعشرين من يوليو عام 2002 هو بحق من اغرز المفكرين انتاجا ثقافيا في مصر والعالم العربي وقد اصدر اكثر من 150 كتابا مابين تأليف وترجمة وتحقيق غير ان مذكراته التي صدرت عام 2000 في جزئين اثارت ومازالت تثير الكثير من الجدل لحدة الانتقادات التي وجهها لرموز في عالم السياسة وشخصيات شهيرة في الحياة الثقافية المصرية والعربية. وكان اول كتاب لعبد الرحمن بدوي قد صدر في عام 1939 عن الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه بعنوان “نيتشه” لتتوالى كتبه التي تشكل علامة خالدة في الثقافة العربية وتتناول في اغلبها شخصيات ومواضيع وقضايا فلسفية وادبية مثل: “آداب الفلاسفة” و”ارسطو” و”افلاطون” و “ابن رشد” و”ابن عربي” و”اشبنجلر” و”الأدب الألماني في نصف قرن” و”الإنسانية والوجودية في الفكر العربي” و”التعليقات لابن سينا” و”المؤامرة والحب” و”تاريخ التصوف الإسلامي” و”حياة هيجل” و”شوبنهاور”. وإذ يذهب البعض لاعتبار الدكتور عبد الرحمن بدوي اول فيلسوف وجودي مصري لتأثره الكبير بالفلاسفة الوجوديين في أوروبا وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر فان عنوان اطروحته للدكتوراه كان :”الزمان الوجودي” فيما تنسب عدة مصادر لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قوله عند مناقشة هذه الأطروحة بجامعة القاهرة يوم التاسع والعشرين من مايو عام 1944 :”لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا”. ولئن عرفه قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة كطالب نابغ ومدرس واستاذ لايشق له غبار فان الدكتور عبد الرحمن بدوي قام بتأسيس قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عين شمس كما تألق كأستاذ في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة السوربون الفرنسية الشهيرة ضمن مسيرته الأكاديمية والثقافية البالغة الثراء والمتعددة المحطات. وكأحد اهم أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية والعربية الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي اجاد الى جانب العربية عدة لغات اجنبية من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والفارسية واللاتينية والأسبانية واليونانية . وعلى تعدد كتبه هاهو الجدل يتجدد بقوة عبر منصات الصحف ووسائل الاعلام قبيل حلول الذكرى السادسة عشرة لرحيله ويتركز على مذكراته الصادرة بعنوان :”سيرة حياتي” والتي تضمنت اراء بشأن رموز وشخصيات اعتبرها البعض “صادمة” فيما وصفت الكاتبة سناء البيسي بطرافة مفرداتها واستعانتها “بقول أولاد البلد”لسانه “بالفرقلة” !..غير ان هذه الكاتبة الكبيرة في جريدة الاهرام لاحظت ان هذا المثقف الكبير واستاذ الفلسفة اللامع “تعرض للتجاهل والتحجيم واسدال الستار ووأد كل مايأتي على ذكره وذكراه” رغم “الاعتراف غير المعلن بتفرده وانه أستاذ أساتذة الفلسفة في العالم العربي”. وهكذا سكت الجميع عن “تقريظ الحصان البري الجامح الذي لم ينجح احد في استئناسه” على حد وصف سناء البيسي التي اعتذرت بأنها لاتستطيع “سرد كل ماجنح اليه بدوي من طول لسان وافتراءات” طالت في نظرها العديد من الرموز والشخصيات العامة والثقافية والأكاديمية مثل أستاذ الفلسفة الراحل الدكتور زكي نجيب محمود الذي ذهب عبد الرحمن بدوي الى ان “مستوى كتاباته لايزيد عن مستوى طالب في المرحلة الإعدادية”. واعادت للأذهان ان الدكتور عبد الرحمن بدوي لم يوفر في هجومه وانتقاداته البالغة العنف شخصيات مثل الشيخ محمد عبده والمفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والكاتب والأديب احمد امين والطبيب الجراح الشهير علي إبراهيم فضلا عن ساسة في حجم سعد زغلول ومحمود النقراشي ومصطفى النحاس والدكتور محمود فوزي. فالرجل الذى قضى عام 2002 بعد ان قال كلمته الفظة وهو ملء السمع والبصر فى الحياة الثقافية العربية لم تسلم منه ابدا قامات كالكاتب الكبير احمد امين صاحب “فجر الاسلام” و”ضحى الاسلام” والعديد من الكتب الهامة الآخرى ولا الدكتور عبد الوهاب عزام الذى كان عميدا لكلية الآداب فى جامعة القاهرة قبل ان ينتقل للسلك الدبلوماسى ولا حتى الكاتب والمفكر عباس محمود العقاد او الدكتور محمد حسين هيكل كما ان له رأى شديد السلبية فى الامام محمد عبده. واذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوى صاحب المقام الرفيع فى عالم البحث والفكر والمكانة المحفوظة فى تاريخ الفكر العربى قد هاجم هذه الأسماء الكبيرة من اعلام الثقافة المصرية والعربية بأعنف الألفاظ فليس من المدهش ان يصف الكاتب الصحفى الراحل احمد بهاء الدين بأنه “شيوعى قح يتلون بألوان مختلفة بحسب الظروف” او يقول عن الكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوى انه “متعدد الأطوار يدور من اليمين الى اليسار ويجمع بين عمامة الاسلام وكاسكيت الشيوعيين” . كما حمل الدكتور عبد الرحمن بدوي فى هذا الكتاب حملة ضارية على المفكر الراحل واستاذ الفلسفة الدكتور زكى نجيب محمود الذى كما يقول: “راح يكتب مقالات ادبية سطحية فى مجلة الرسالة معظمها تلخيص بسيط ساذج من كتاب ول ديورانت:قصة الفلسفة وهو كما يدل عليه اسمه كتاب تافه جدا سطحى جدا يتوجه لعامة المبتدئين فى الثقافة”!. وفى هذه المذكرات التى احدثت دويا وتداعيات ورياح غضب لم تتوقف-يسخر عبد الرحمن بدوى ايما سخرية من الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية فى المرحلة الناصرية ورئيس الوزراء فى مطلع المرحلة الساداتية ويشتط فى هجومه حتى يذهب الى ان الدكتور محمود فوزى “لايدرى فى السياسة شيئا”!. وكان الكاتب المصري الراحل ورئيس تحرير مجلة الهلال الأسبق مصطفى نبيل قد اعتبر من قبل ان هذه المذكرات بمثابة نوع من الأخذ بالثأر فيما قال الكاتب والناقد اللبنانى جهاد فاضل ان الدكتور عبد الرحمن بدوى لجأ للصراحة اللفظية غليظة القلب وحطم رموزا تاريخية لها مكانة رفيعة فى الوجدان المصرى والعربى . ويتسائل جهاد فاضل:”هل سر ذلك انه عمل كثيرا ونال قليلا ام لأنه موهبة نادرة لم تنل التقدير الكافى فيما يشير الى ان ان احدا لايستطيع ان ينكر فضله على الثقافة العربية فالكتب التى الفها وترجمها وحققها كثيرة “وترك لنا مكتبة تحتل مكانة علمية كبيرة”. وفي مجلة “العربي” الكويتية التي تعني بالقضايا الثقافية كان وزير الثقافة المصري الأسبق والكاتب والناقد والأكاديمي الدكتور جابر عصفور قد تناول طرفا من علاقته بالدكتور عبد الرحمن بدوي اثناء عملهما معا في ثمانينيات القرن الماضي كأستاذين بجامعة الكويت..وضمن ذكرياته عن عمله بجامعة الكويت وتحت عنوان فرعي :”نوادر عبد الرحمن بدوي” قال جابر عصفور ان الدكتور عبد الرحمن بدوي كان من ابرز أساتذة قسم الفلسفة في كلية الآداب بهذه الجامعة غير انه كان يعمل حينئذ تحت رئاسة “تلميذه الدكتور فؤاد زكريا” فيما يقول “لم يسترح نفسيا للطريقة المتعالية التي يتحدث بها عبد الرحمن بدوي” في لقاءات جمعت بينهما. ويخلص القاريء الى ان العلاقة بين عبد الرحمن بدوي وجابر عصفور كانت “متوترة” فيما ينقل عصفور عن الدكتور فؤاد زكريا قوله له عندما ذهب ليشكو له من تصرفات بدوي :”رغم انني رئيس القسم الذي يعمل فيه الدكتور عبد الرحمن بدوي ورغم انه أستاذ لي واحترمه كل الاحترام فانه لم يقل لي صباح الخير او تحية من هذا القبيل لست سنوات مضت”..ولم يغفل عصفور وصف الدكتور عبد الرحمن بدوي “بالبخل الشديد” وهي صفة تحدث عنها غيره أيضا فيما ينقل وصف فؤاد زكريا للدكتور بدوي بأنه “رجل سيء الظن بالبشر كما انه لايحب الصحفيين ومن في حكمهم”. وفي مواجهة الانتقادات الحادة التي طالت عبد الرحمن بدوي في الآونة الأخيرة قال الكاتب الدكتور عبد الرشيد محمودي ان بدوي سيظل هدفا للنقد “وان كان هذا النقد يفتقر في معظمه الى ترتيب صحيح للأولويات” موضحا ان “الاهتمام بالفيلسوف المصري الراحل ينصب أساسا على الجوانب السلبية من شخصيته واعماله”. ورأى عبد الرشيد محمودي المعروف باهتماماته الثقافية الموسوعية في جريدة الأهرام “ان هناك مايبرر تلك الانتقادات السلبية فالعيوب المستهدفة في حياة الرجل واضحة ولايمكن الدفاع عنها ومن ذلك استعلاؤه واحكامه الظالمة والجارحة على كثير من اعلام عصره وزملائه وحدة طباعه وشدة بخله وتقتيره على نفسه” او تغليبه “الكم على حساب الكيف” في كتبه واعماله وكذلك “الاطناب المخل بالتناسب والاتساق”. وقال محمودي :”لقد أتيح لي بحكم دراستي للفلسفة ان اطلع على بعض اعمال بدوي واستعين بها في كتاباتي كما أتيح لي عندما عملت في منظمة اليونسكو بباريس ان التقيه واقترب منه شيئا ما” موضحا ان الدكتور عبد الرحمن بدوي كان “يتحاشى التقارب ويقاوم من يحاول الاقتراب منه على الصعيد الشخصي”. وأشار الى انه قام ذات يوم باهداء بدوي نسخة من كتابه “كتابات طه حسين بالفرنسية” وكان يطمع في تعليقاته على محتويات الكتاب أي مقالات طه حسين وعلى جهد المؤلف الذي اكتشف تلك المقالات ونقلها الى العربية “ولكن شيئا من ذلك لم يحدث” موضحا ان الدكتور عبد الرحمن اكتفى حينئذ بتصحيح خطأ ورد في الكتاب بشأن احد التواريخ في حياة الأديب الألماني الأشهر جوتة. وتابع :”قلت لنفسي هذا هو التصرف المتوقع من عبد الرحمن بدوي..انه ينأى بنفسه عن الغير” معتبرا انه كان فيما يبدو يعاني من “جفاف حياته العاطفية ولم يعرف عنه انه كان له أصدقاء خلصاء” ليكون الانطباع الرئيسي الذي خرج به عبد الرشيد محمودي عن الدكتور بدوي انه “رجل وحيد او متوحد وهذا التوحد كان من صنعه الى حد ما اذا تذكرنا برنامج العمل الرهيب الذي فرضه على نفسه منذ بداية حياته العلمية”. وفيما يشير عبد الرشيد محمودي الى “جفاف الحياة العاطفية للدكتور عبد الرحمن بدوي الذي لم يتزوج ابدا” توميء الكاتبة سناء البيسي لعلاقات والاعجاب الكبير لبدوي بالمطربة الراحلة اسمهان وحرصه على زيارة قبرها كما توميء لمشاعر حب ابداها حيال فتاة المانية تدعى “يوهنا جابلر” فضلا عن علاقة رومانسية مع “الفاتنة الهولندية هندريكة” التي تقول سناء البيسي انه تعلق بالأدب الهولندي من اجلها. غير ان الدكتور عبد الرشيد محمودي الذي كتب من قبل عن الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب صدر منذ نحو عقد واحد بعنوان “ادباء ومفكرون” قد استدرك قائلا :”الا ان التركيز على الجوانب السلبية في حياة الرجل واعماله من شأنه ان يصرف الانتباه عما هو مهم حقا أي إنجازاته الفكرية واسهامه في اثراء الفكر العربي وان ينسينا ان بدوي كان رغم كل شيء اكبر أستاذ للفلسفة واهم فيلسوف في العالم العربي في القرن العشرين”. ومضى محمودي في الحديث عن صاحب كتب “دون كيخوتة” و”ربيع الفكر اليوناني” و”عيون الحكمة” ليقول ان الأعمال الفلسفية النظرية للدكتور عبد الرحمن بدوي مثل ” الزمان الوجودي وهل يمكن قيام اخلاق وجودية ودراسات في الفلسفة الوجودية مازالت تنتظر من يتناولها بالتحليل والنقد”. وإذ ينوه الدكتور عبد الرشيد محمودي بتنوع الاهتمامات الثقافية لصاحب “فاوست” و”فلسفة الحضارة” و”فن الشعر الأوروبي المعاصر” وتعددها مابين اهتمامات فلسفية وادبية ودراسات تاريخية وموسوعية ومشاريع للترجمة فانه يبدي اسفه لأن الدكتور عبد الرحمن بدوي “لم يركز على بحوثه الفلسفية النظرية”. والسبب في عدم تركيز الدكتور عبد الرحمن بدوي على بحوثه الفلسفية النظية كما يرى عبد الرشيد محمودي انه كان “مدفوعا برغبة عارمة في كسر كل الحواجز وتحدي كل العقبات والالمام بكل شيء وتحقيق مالا يستطيع غيره تحقيقه”. ومن الممكن ان يقال أيضا انه كان يشعر “بأن هناك مهمة تاريخية كبرى ملقاة على عاتقه وانها تدعوه هو وحده الى النهوض بها وهي مهمة التمهيد لدراسة الفلسفة دراسة جادة وكان يريد فيما يبدو ان يجعل من نفسه جسرا تستعين به الأجيال التالية من الطلاب والباحثين بغية العبور الى مراحل جديدة من الابتكار ولقد وفر لهم بناء على ذلك تلك الأدوات اللازمة وشق لهم الطرق التي يمكن ان يسلكوها وحدد لهم الغايات والمقاصد البعيدة التي ينبغي السعي اليها ومازالت تلك الكتب الجسور في حاجة الى الدراسة الفاحصة وتدعو الى الإفادة منها” كما يقول الدكتور عبد الرشيد محمودي. ومن جانبها رأت الكاتبة سناء البيسي ان “قيمة الفيلسوف بدوي الحقيقية انه يمثل جسرا بين الحضارات الغربية والشرق من خلال قدرته الفائقة على مخاطبة العقل الغربي دفاعا عن الإسلام وفي فضحه لأخطاء حركة الاستشراق”. وقالت :”ومن هنا يرفرف الفيلسوف بجناحين: الأول يأخذه الى سماء الفكر الأوروبي ليحاور الثقافة الغربية كواحد من أبنائها والثاني يطير به نحو الينابيع البعيدة في التراث العربي الإسلامي فيكشف عن مناجم الذهب التي دفنها جهل المحدثين” ومن ثم فلا غرابة اذا ماوجدناه يكتب عن افلاطون وارسطو وشبنهاور وكانت وجوتة ولوركا وبريخت ونيتشه كما يكتب عن ابن رشد وابن باجة وابن طفيل والفارابي ورابعة العدوية وابن عربي. ويبدو ايضا ان الكاتب والناقد اللبناني جهاد فاضل يعود ساعيا لالتماس العذر للدكتور عبد الرحمن بدوى فيقول:”من الطبيعى لمثقف مثل بدوى عاش مالا يقل عن نصف عمره فى باريس وبقية مدن اوروبا ألا يضطر للجوء الى المجاملة عند حديثه عن زمانه واهل ذلك الزمان..لقد أنف من المجاملة ولجأ الى الصراحة الفظة الغليظة القلب”. وايا كان الأمر فان أحدا ليس بمقدوره ان ينكر الحضور الثقافي المتوهج للدكتور عبد الرحمن بدوي حتى بعد 16 عاما من رحيله عن الحياة الدنيا.. ورغم أي مآخذ على حدة وجموح انتقاداته أحيانا فانه يبقى في تاريخنا الثقافي علما من اعلام الثقافة العربية وصاحب أفكار ورؤى فلسفية لن تموت !..ولعل قصة هذا الفيلسوف الذي مات وحيدا هي في جوهرها قصة “الفيلسوف العبقري والمآساة” !!.
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights