عمار علي حسن يكتب : سيدا النار فى أيامنا الأولى
( 1) المنقد
ما إن يهل الشتاء حتى كان أبى يأتى به من فوق سطح بيتنا، بعد أن قضى هذا الطبق الطينى الضخم ثلاثة فصول وحيدًا خاويًا. يضعه أمامه ثم يمسح قلبه المحروق بخرقة قديمة، وينفخ فيتطاير الرماد المعتق، ويحط على الجدران المتهالكة، وبعضه يحمله الهواء إلى الشارع، حيث يمشى الناس متدثرين بملابس ثقيلة. كانت أمى قد صنعته قبل ثلاث سنوات من طين متماسك كالصمغ، جىء به من قعر الترعة الجارية على رؤوس الحقول. وضعته أمامها على كيس من البلاستيك المقوى، وراحت تضربه يمنة ويسرة، ثم فردته، وضربته فى المنتصف بقوة، فبانت جدران خفيضة، لم تلبث أن ارتفعت قليلًا، بينما غاص القلب وانطرح، وفى المنتصف امتد عمود قصير، ينتهى بقاعدة قوية مستديرة، تنيخ على الأرض قليلًا، لتمسك بها، فتحفظ له توازنه. تصنعه فوق سطح البيت على مهل، وتتركه فى الشمس حتى يجف فى مكانه قابضا على جسمه الطينى الذى صار مستعدًا لأن تحمله يدا أبى دون أن ينبعج أو ينفلق، ليستقر فى الصالة الطويلة على حصير صغير، منتظرًا قطع الخشب والحطب التى سيضعها أبى فى قلبه، ثم يسكب قليلًا من الكيروسين، وقبل أن يشعل النار، يحمله خارج المنزل، حتى يتبدد دخانه أو يسافر إلى غير صدورنا، فلما تضع النار ألسنتها اللاهبة التى تخرق الهواء، ويصفو الجمر، وتترقرق بين جنباته أزاهير اللهب الزرقاء الرائقة، يمسكه من جنبيه بخرقتين سميكتين، ويرفعه إلى داخل البيت، فنهرع إليه، ونتحلق حوله مادين أكفنا التى ترتعش من الصقيع. ما تفعله أمى كانت تفعله كل نساء القرية، وكذلك ما يفعله أبى يكرره الرجال مع توالى الشتاءات فى كل البيوت، يهشمون الحطب ويفلقون عروق الخشب بالبُلَط والفؤوس ويرصونها فى جوف المنقد حريصين على أن يجعلوا بينها فراغات حتى تشتعل النار فيها بسهولة. وكلما كنت أمر فى الشارع وجدت منقدًا أمام كل بيت، إلا بيوت الأرامل العجائز اللائى ليس بوسعهن أن يجمعن الحطب من الحقول وجوانب الجسور، ويكتفين بدس أرجلهن وجذوعهن تحت الألحفة والبطاطين الرخيصة. أسرع بين المنقد وأخيه، لأمد يدى إلى كل واحد أصل إليه، فأقطف بعضًا من أزاهير لهبه، وأسحبها على جسدى، أدعك صدرى وساقىّ ثم أفرك راحتىّ بقوة، مطوحًا رأسى على قدر استطاعتى بعيدًا عن الدخان المنبعث من المنقد، والذى يتدفق إلى نهر الشارع، ليضيف إلى ظلمته ظلامًا آخر، ويغلب بعض الضوء الشحيح الذى منحته ألسنة النار للعابرين. لم يكن أحد يشغله ما تفعله المناقد بجدران البيوت، فهى كانت من الطوب اللبن، وطلاؤها لا يزيد عن طين ناعم كالمرهم يؤتى به من جوف الترعة وقلوب الحقول، تمده الأكف كل صيف أو بين صيف وآخر على الحوائط، ويترك ليجف. وجدران كتلك لا يضيرها كثيرًا أن يغشيها دخان المناقد، وينحبس بينها ساعات كل ليلة، بل إن بعضها كان لونه ينتقل تدريجيًا إلى الرمادى الغامق، مانحًا المكان وقارًا ورهبة. الآن تبدلت الجدران، صارت من الطوب الأحمر والأسمنت المطلى بأفخر أنواع البويات على اختلاف ألوانها، وصار أصحاب البيوت يخافون على الطلاءات الملونة من دخان المناقد، فاستغنوا عنها بعضهم. اشترى دفايات كهربائية من البندر، وبعضهم اكتفى بملابس وأغطية ثقيلة، وهناك من أبقى على المناقد لكنه وضعها على عتبات البيوت لتفرغ دخانها كاملًا فى الشارع، فإن صفا الجمر تمامًا، يمكن أن تُحمل إلى غرف داخلية ضيقة إن فسد طلاؤها فلا ضرر كثيرا على أهل البيت، وإن لم يصف يخرج الرجال ويجلسون على العتبات متحلقين حول المنقد. مع توالى السنين راح عدد المناقد يتناقص، بينما تزيد الدفايات والأغطية، ويكسل الجيل الجديد عن جمع الحطب بدأب طيلة الفصول حتى يأتى الشتاء، وينزوى كل فى غرفته متدثرًا بالدفء المصطنع، وتبقى مجامر الطين الوسيعة وحيدة أيضا تكسوها الأتربة والقش فوق أسطح المنازل شاهدة على زمن من الوصال والدفء.( 2) الكانون