د. فوزى فهمى يكتب : الهشاشة سلاح الهيمنة

0
إن المواطنة تتطلب من أجل كمالها سلوكًا معرفيًا متقدمًا، ولكى تتجدد الحياة لوطن، لا يجب لشيء فيه أن يتأبد، عندئذ يخسر المجتمع نهضته، بانكفائه على الموروث؛ إذ يشكل ذلك التماهى عائقًا أمام تحرير العقل لإدراك العالم والتفكير فيه، وإعادة صياغة أشياء ذلك العالم، مستهدفًا تشكيل صيغة وجودية للإنسان فى تعامله مع كل ما ينتمى إليه فى ظل الحضور الفاعل للمعرفة؛ عندئذ يصبح الإنسان على طريق التلاقى مع ذاته والآخر، لكن هناك من يرى أن الجغرافيا قد تبرز معوقًا لذلك التلاقي، انطلاقًا من اعتقاد يؤكد أن ثمة «جغرافيا للفكر»، تستثنى غيرها مما ينطبق عليها، وفقًا لنوعية تلك الجغرافيا بوصفها جغرافيا مغايرة وفقًا لخواصها، وذلك ما يطرحه عالم النفس الثقافى الأمريكى «ريتشارد إي. ينسبيت»، فى كتابه الصادر عام 2003 «جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا؟»، مؤكدًا حقيقة اختلاف آليات التفكير بين الشعوب، المنتجة للتوجهات والسلوكيات والتصورات والمعتقدات، كسمات نفسية وعقلية متوارثة. يقر المؤلف فى تحديده للجذور الفلسفية للغربيين (الأوربيين والأمريكيين)، أن إرثهم عن الإغريق يتبدى فى قوة الإحساس بالذاتية الفردية، التى تشكل كيانًا متميزًا ومستقلاً، يحرص على تعميق الفوارق الفردية، التى تعنى مسئولياتهم عن حياتهم، وحرياتهم فى اختياراتهم؛ إذ يعكس واقع ممارسات الفرد الإشباع والسعادة، نتيجة اقتداره؛ تحقيقًا للتميز فى حياة لا تعرف القيود أو الضغوط، وتتبدى سطوة المنطق الإغريقى لدى الغربيين فى عاداتهم وممارساتهم الاجتماعية، وذلك من خلال اعتيادهم الجدل بمركباته المتنامية، انتصارًا للرأى أو نقيضه، إذ ليس ثمة مكان لأنصاف الحلول، أو التفاوض فيما يعتقدون، وفى طرحهم للأفكار يستهدفون الدقة والحسم، وتتأسس العلاقات الاجتماعية للغربيين على مفهوم حقوق الإنسان، أما علاقة الفرد بالدولة فيحكمها مفهوم يكتسب معناه انطلاقًا من أن الأفراد وحدات منفصلة، تدخل معًا فى عقد اجتماعى مبرم بيتهم والدولة، وأيضًا بين بعضهم بعضًا؛ مما تترتب عليه حقوق معينة، وحريات، والتزامات، وتعد المواجهة القانونية الحد الفاصل فى معالجة النزاعات بين الأفراد، اعتمادًا على تطبيق مبدأ العدالة، كحد حاسم إجرائيًا داخل المجتمع ككل. ويرصد المؤلف أن الحروب الدينية ظلت تكوينًا متواصلاً فى الغرب على مدى قرون، تؤججها سطوة العقيدة السائدة التى تصر على ضرورة دخول الآخرين فيها والالتزام برؤيتها. وفى رصده لإرث الشرقيين (شرق آسيا)، يطرح المؤلف المزيج الفلسفى المكون من ثلاث فلسفات هي: الطاوية، والكونفوشية، والبوذية، التى تشكل منظورًا يؤكد التناغم والتكامل بين عناصر الطبيعة والكون، إذ انطلاقًا من ذلك المنظور يتبدى العالم مؤلفًا من جواهر متفاعلة ومتناغمة، بمن فيها الإنسان فى علاقته مع بيئته ووسطه، أو علاقته مع غيره من البشر، بمعنى أنها علاقة شبكية؛ لذا فإن الفرد لا يتصور نفسه ذاتًا متفردة أو مستقلة، حيث سعادة الفرد تتحقق بإشباع مصالح عامة للمجموعة على نحو متناغم ضمن شبكة اجتماعية، إذ يتمثل جوهر الحياة الصينية فى أداء الأدوار والواجبات التى تكرس لنوزع الترابط الداخلى أسريًا أو اجتماعيًا، وتتسم ممارسات الشرقيين (شرق آسيا) الاجتماعية بالتناغم مع المجموعة، وحسم أى تعارض فى الآراء بتمريره عبر طريق وسطي، كقانون ذاتى يؤكد التوافق مع مشاعر الآخرين، ويحظى التناغم فى العلاقات الاجتماعية بالأسبقية على أى إنجاز شخصى فردي، حيث يقترن الشعور بالرضا عن النفس بالتناغم مع رغبات الجماعة والوفاء بمتطلباتها. ولأن مفهوم المجتمعات لا يمثل حاصل جمع الأفراد؛ بل كتلة مكونة من كائنات مدغمة؛ لذا فإن مفهوم حقوق الإنسان، والحقوق الفردية فى الصين ليست امتيازًا للفرد؛ بل هى مشاركة المرء فى حقوق المجتمع؛ لذا فإنهم ينزعون إلى الوساطة بين المتخاصمين حسمًا للنزاع، إذ يقوم الدين على التسامح، وقبول التداخل بين الأفكار الدينية، وهم يميلون إلى التورية واللغة الإشارية وظلال المعاني. إن الكاتب الأمريكى فى كتابه «جغرافية الفكر»، يعود بنا إلى العنصرية التى كانت متداولة أوروبيًا منذ أواخر القرن التاسع عشر، فى تمسكها بقانون التحقيب الحضارى لتطور الحضارة الغربية، وذلك ما يعنى أن الحضارات الأخرى ليس فى مقدورها أن تكرر النموذج الغربي، لاختلاف الممكنات وأنساق وآليات التحولات التى تظل حكرًا على الغرب وحده، والتى استمرت بوصفها تسويقًا للأمركة لكى تجبر الحضارات الأخرى -طوعًا أو كرهًا- على الخضوع لخواصها كتجسيد لفلسفة القوة والهيمنة، التى لا تؤمن بالتنوعات الثقافية للشعوب التى تتيح للثقافة النوعية فرصة طرح خصوصيتها كاقتدار إنسانى فى توازنه بين الطبيعى والمكتسب. إن الفيلسوف البولندى «زيجموند باومان»، صاحب سلسلة المؤلفات عن التشخيص الفكرى لنظرية «السيولة» أى الهشاشة التى طالت بالسلب والتفكك بنيات الحضارات الصلبة، بسيطرة اللايقين، وهشاشة الروابط الإنسانية وغيرها من السلبيات التى أوردها فى مؤلفاته التى نشرها منذ عام 2003، نراه أيضًا يطرح كيفية الخروج من تلك السيولة؛ إذ يقول: «دائمًا ما يتلاقى التياران المهيمنان اللذان يشكلان علاقات القوة واستراتيجية الهيمنة فى الأزمنة الحديثة السائلة، إذ فى تلك البيئة الحديثة السائلة يمثل (اللايقين المصنع) الأداة الكبرى للهيمنة، كما أن (سياسة عدم الاستقرار)، صارت تمثل الركيزة الأساسية لاستراتيجية الهيمنة، وذلك لا يبشر (بتمكين المواطنين). إن التمكين يتطلب بناء الروابط البشرية وإعادة بنائها، كما يتطلب الإرادة والقدرة على الانخراط مع الآخرين فى جهد متواصل لجعل الوجود الإنسانى أكثر رحابة وقبولاً للتعاون الثرى المتبادل على يد رجال ونساء يحاربون من أجل تقدير الذات، وتنمية قدراتهم، والاستخدام المناسب لإمكاناتهم. وذلك من أجل التمكن من إعادة بناء الفضاء العام الذى صار مهجورًا، ذلك الفضاء الذى ينخرط فيه الرجال والنساء فى ترجمة مستمرة بين الواجبات والحقوق والمصالح الفردية والجمعية، الخاصة والعامة، لذا فإن المهارات التى نحن فى أمس الحاجة إليها لإحياء المجال العام، هى مهارات التفاعل مع الآخرين، مهارات الحوار والنقاش والتفاهم المتبادل، والتعامل مع الصراعات الحتمية فى كل حياة مشتركة». إنه الطرح الفاعل لتمكين المواطن بدلالاته المفتوحة والمتصاعدة، عبر التواصل والشفافية والفهم الطامح إلى المعرفة والعدالة، وكل ما يضع حدًا لهشاشة المفاهيم والقيم بوصفها سلاح الهيمنة.
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights