و قبل التعرض للمناظرة و ما اكتنفها انعقادها من ظروف و ملابسات لابد في البداية من التعرف على طرفي المناظرة الرئيسيين و كذلك راعيها و بعض من شهدوها و شاركوا في جزء منها من صفوة العلماء :
أولا : الكسائي .
—————
هو أبو الحسن بن علي بن حمزة من أصل فارسي ؛ و الكسائي لقب لقب به قيل لأنه حج محرما في كساء ، و يعد الكسائي إمام الكوفيين في اللغة و النحو بل يرى بعضهم أنه مؤسس المذهب الكوفي أو المدرسة الكوفية في النحو بالرغم من أنه – كما روى بعض من ترجموا له – قد طلب النحو كبيرا و قد تلقى علومه على أيدي المفضل الضبي و زائدة بن قدامة و الأعمش و معاذ الهراء و الخليل بن أحمد الفراهيدي و آخرين غيرهم ، و لم يكن مبرزا في اللغة والنحو فقط بل كان أحد القراء السبعة المشهورين و إليه انتهت رياسة الإقراء في الكوفة و قد شهد له بعلو كعبه في النحو و القراءات جملة من العلماء فقد قال عنه أبو بكر الإنباري : اجتمعت في الكسائي ثلاثة أمور كان أوحد الناس في علم النحو و أوحدهم في معرفة الغريب و أوحدهم في القرآن ، و قال عنه أبوعبيدة : ليس هناك من هو أضبط للقراءة و لا أقوم لها من الكسائي ، كما قال عنه إسماعيل بن جعفر و هو من أصحاب نافع الكبار : ما رأيت أقرأ لكتاب الله من الكسائي ، و قد عاش الكسائي سبعين سنة تقريبا
ويروى أنه مات في نفس اليوم الذي مات فيه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان فقال الرشيد – و العهدة على الراوي – في ذلك : دفنا الفقه و النحو في يوم واحد ، و قد كان الكسائي كما يقول الذهبي عنه في ” سير أعلام النبلاء يتصف ” : بالتيه و الحشمة ؛ و علل ذلك بما ناله من الرياسة ، و قد نسبت إلى الكسائي عدة تصانيف منها : معاني القرآن و مقطوع القرآن و موصوله و النوادر الكبير و النوادر الصغير و اختلاف العدد و كتاب الحروف و كتاب الهجاء و غيرها ، و لكنا لا نعرف عن تلك المصنفات سوى أسمائها فلم يصلنا منها شيء البتة مما يضفي على الأمر قدرا من الشك ، و إلى الكسائي يعزى بيان أثر القواعد النحوية في توجيه الفروع الفقهية
كما أنه أول من اهتم بتعليل القراءة و ربط هذا التعليل بالقياس النحوي ، و لكنه لم يعدم القادحين في شخصه و علمه فهذا أبو الطيب اللغوي يقول في كتابه ” مراتب النحويين ” نقلا عن أبي حاتم السجستاني : لولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئا و في كلامه تحامل شديد من أثر المنافسة و التعصب ، و عده عبد الله بن مقلة و السيوطي ممن أفسدوا النحو لأنه كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا من الخطأ و اللحن و شعر غير ذوي الفصاحة و الضرورات فيجعله أصلا و يقيس عليه ، كما يروى – و في ذلك شك – أن تلميذه الفراء قال عنه إنه : مات و هو لا يحسن حد ” نعم و بئس ” و لا حد ” أن المفتوحة ” و لا حد ” الحكاية ” ، و عن علمه بالشعر قال الزبير نقلا عن اسحق الوصلي : ما رأيت رجلا منسوبا إلى العلم أجهل من الكسائي ، و للكسائي تلاميذ من أشهرهم هشام بن معاوية الضرير و يحيى الفراء .
و أهم ماينبغي علينا معرفته في هذا السياق ( سياق المناظرة القاتلة ) أن الكسائي نال حظوة كبيرة لم ينل مثلها عالم غيره لدى الخلفاء العباسيين فقد اختاره الخليفة المهدي لتأديب ابنه هارون الرشيد (2) كما انتدبه الخليفة هارون لتأديب ولده الأمين ، لذلك فقد أصاب جاها و أثرى إثراء عريضا و كان يترضاه بالطبع الأمراء و كبار القادة و تحيط به حيثما يكون كوكبة من تلاميذه و المريدين المعجبين و ذوي المصالح الطامعين و الطامحين ، و قد توفي الكسائي عام 189 هـ .
ثانيا : سيبويه
————
هو أبو بشر أو أبو الحسن عمرو بن عثمان بن قنبر ، من أصل فارسي و ” سيبويه ” لقبه الذي عرف به و يعني بالفارسية رائحة التفاح ، و بحسب تعبير الدكتور علي النجدي ناصف فإن سيبويه : ” كان في نفسه وديعا سمحا حسن الظن بالناس عزوفا عن الصغائر مترفعا عن الغنم الرخيص ” و كان كذلك : ” طموحا شجاعا ماضي العزيمة متفائلا حليما ” ، و قد طلب سيبويه في البداية علوم الدين و لكنه سرعان ما انصرف عنها إلى طلب علوم الأدب و قد غلب عليه النحو و كما قال القفطي في كتابه ” إنباه الرواة ” و الزبيدي في كتابه ” طبقات النحاة ” و لكنه كان عالما بالقراءات و اللغة و تدل شواهد كتابه على ذلك ، و قد عرف باجتهاده في تحصيل العلم لا يكاد يشغله عن القراءة فيه شيء آخر مهما كانت أهميته ،
و قد تتلمذ سيبوية لجماعة من كبار علماء اللغة و النحو هم كما جاء في ” بغية الوعاة ” للسيوطي : الخليل بن أحمد و يونس بن حبيب و أبو خطاب الأخفش ( الأخفش الكبير ) و عيسى بن عمر ، و يعد سيبويه إمام المدرسة البصرية (4) في النحو و قد استوى له علم العربية و صار في حياة شيوخه أستاذا له حلقة من تلاميذه و مريديه ، و من أثر فارسيته أنه كان يعاني من حبسة أو لكنة بلسانه كثيرا ما تعوقه في المناظرات و لذلك قال عمرو بن عثمان عنه : سمعته يتكلم و يناظر في النحو و نظرت في كتابه فرأيت علمه أبلغ من لسانه ،
و ليس لسيبويه من التصانيف سوى كتاب واحد أعجله الغم و فرط الحزن اللذان أفضيا إلى موته عن أن يضع له عنوانا فسمي بـ ” الكتاب ” ، و لم يشتهر الكتاب و لم يشتهر معه صاحبه الشهرة المدوية التي طبقت الآفاق إلا بعد وفاته ، و من شدة تقدير العلماء لكتاب سيبويه كانوا يلقبونه بـ ” قرآن النحو ” ، و في كتاب سيبويه يقول الجاحظ : لم يكتب الناس كتابا في النحو مثله و جميع كتب الناس عيال عليه ، و حدث هارون بن الزيات قال : دخل الجاحظ على أبي و قد افتصد ( أي أسال دما من وريده كنوع من العلاج ) فقال له : أدام الله عليك صحتك و وصل غبطتك و لا سلبك نعمتك ،
فسأله أبي : ما أهديت إلينا يا أبا عثمان ؟ فرد الجاحظ : أطرف شيء ؛ كتاب سيبويه بخط الكسائي و مقابلة الفراء و تهذيبي ، و روي أيضا عن الجاحظ أنه كان يقول لمن يريد أن يقرأ عليه الكتا ب : أركبت البحر ؟! استصعابا ، و قال أبو العباس المبرد : إنه لم يعمل كتاب مثله ، و من قرأ و فهم كتاب سيبويه لا يحتاج إلى كتاب غيره ،
و قال أبو عثمان المازني : إن من يقدم على تأليف كتاب كبير في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي ، و قال ابن الأهدل عن سيبويه و كتابه : كان أعلم المتقدمين و المتأخرين بالنحو و لم يصنف فيه مثل كتابه ، و قال أبو عمر الجرمي أحد شراح الكتاب : أنا أفتي الناس منذ ثلاثين سنة من كتاب سيبويه ، و قال الفخر الرازي : إن أجل الكتب المصنفة في النحو و اللغة كتاب سيبويه ، و قال ابن كثير : صنف سيبويه في النحو كتابا لا يلحق شأوه ،
و قال أبو حيان الغرناطي في كتابه ” البحر المحيط ” : فجدير بمن تاقت نفسه إلى علم التفسير و ترقت إلى التحرير و التحبير أن يعتكف على كتاب سيبويه ، و يرى د . على النجدي ناصف أن سيبويه بما عرض له في كتابه من البلاغة يعد واضع علم البلاغة و بما جمع فيه من القضايا و المسائل التي تعتمد عليها علوم أصول الفقه و النقد الأدبي و التجويد يعد ممهدا لظهور تلك العلوم ، و قد عرف منافسو سيبويه قدره بعد وفاته فيروى أن الكسائي قرأ كتابه على الأخفش سرا و أجازه عن ذلك بسبعين دينارا ، كما يروى عن الإمام ثعلب أن الفراء مات وتحت رأسه كتاب سيبويه ، و من أشهر تلاميذه الأخفش الأوسط و قطرب ، و قد توفي سيبويه في ريعان الشباب قبل أن يكمل الأربعين من عمره عام 180 هـ على الأرجح .
ثالثا : الفراء .
————— هو يحيى بن زياد و يلقب بالفراء لأنه يفري الكلام أي يصلحه ، أحد أعمدة مدرسة الكوفة في النحو و لا غرو فهو تلميذ الكسائي و صاحبه الذي يتعصب له و لمنهجه ، كان أبرع الكوفيين و أعلمهم بالنحو و اللغة و فنون الأدب ، و يروى أن ثعلب قال في حقه : لولا الفراء لما كانت عربية ؛ و قال عنه أبو بكر الإنباري : لولم يكن لأهل الكوفة من علماء العربية إلا الكسائي و الفراء لكان لهم الفخر على جميع الناس ؛ و قال عنه ثمامة بن أشرس ناقشت الفراء في اللغة فوجدته بحرا و في النحو فشاهدته نسيج وحده ، و وصفه بعضهم بأنه كان ورعا متدينا برا بأهله و قومه ، تأثر بالمناخ الفكري الذي أشاعه المعتزلة ( تيار العقل ) إبان صراعهم مع أهل السنة ( تيار النقل ) و إن لم يكن معتزليا فكان يتفلسف في تصانيفه و يستعمل ألفاظ الفلاسفة و مع ذلك كان يكثر من الرواية و يهتم بالنقل اهتماما كبيرا ، كما تأثر بمناخ الصراع و المنافسة مابين البصريين و الكوفيين
فكان متعصبا للمدرسة الكوفية و لأستاذه الكسائي و هذا يفسر بعضا من تهجمه الزائد على سيبويه و تعمده الاختلاف معه حتى في ألقاب الإعراب و تسمية الحروف ، و بالرغم من ذلك يرى بعضهم أنه تأثر بمدرسة البصريين المناوئة فكان متشددا في قبول الرواية ؛ لا يجيز كل ما يروى عن العرب ، و كان دائم القدح في أبي عبيدة معمر بن المثنى إلى درجة أنه كان يكني عنه بقوله : ” من لا يفهم العربية ” ، له من التصانيف التي توصف بالقيمة : كتاب الحدود ، المصادر في القرآن ، اللغات ، الوقف و الابتداء ، الجمع و التثنية في القرآن ، الفاخر ، فعل و أفعل ، المذكر و المؤنث في القرآن ، مشكل اللغة الكبير ، مشكل اللغة الصغير ، كتاب الواو ، ما تلحن فيه العامة و غيرها ، و أغلب تلك التصانيف مابين مخطوط و مفقود ، كان من المتصلين بالخلفاء و قد انتدبه المأمون لتأديب ولديه فأصاب جاها و مالا كثيرا ، توفي الفراء عام 207 هـ .
رابعا : علي الأحمر
——————-
هو أبو الحسن علي بن المبارك الأحمر اللحياني ، كان من تلاميذ الكسائي و أحد أعمدة مدرسة الكوفة في النحو ، يروى أنه كان في مبتدأ طلبه العلم يراقب الكسائي إذا حضر عند الرشيد فيسير خلفه فمتى فرغ من نوبته يستمع إلى حديثه و يناقشه في المسائل حتى صار واحدا من أصحابه ، و هو أول من دون عن الكسائي و نقل آراءه قبل زميله الفراء و كان في حياة الكسائي متقدما على القراء لجودة قريحته و تقدمه في علل النحو و مقاييس التصريف ، قال عنه ثعلب : كان علي الأحمر يحفظ أربعين ألف شاهد في النحو سوى ماكان يحفظه من القصائد و أبيات الغريب ، و قال الذهبي و كذلك الصفدي : شيخ العربية و تلميذ الكسائي ؛ كان مؤدب الأمين بتعيين الكسائي له ، و قال القفطي عنه : صاحب الكسائي ؛ كان مؤدب الأمين و هو أحد من اشتهروا بالتقدم في النحو و اتساع الحفظ ، وبالرغم من أن الفراء كان زميل الأحمر في التلمذة للكسائي و ينتميان معا إلى مدرسة واحدة في النحو ( مدرسة الكوفة ) إلا أنه كانت بينهما منافسة شديدة جعلت الفراء يقول عقب وفاة الأحمر : ذهب من كان يخالفني في النحو ، وحكاية قيامه بتأديب الأمين ملخصها أن الكسائي الذي كان يؤدب الأمين أصيب بالوضح ( أي البرص و هو مرض تخشى عدواه ) فطلب منه الرشيد أن يوصي بأحد تلاميذه ليحل محله في وظيفته فأوصى الكسائي بعلي الأحمر و تسلم الأحمر الوظيفة و قام بها في البداية تحت إشراف أستاذه ، و قد أثرى كثيرا من وراء ذلك ،
و إلى ذلك أشار الصابي نقلا عن الصولي حين قال : الأحمر مؤدب الأمين لم يصر أحد قط من التأديب ما صار إليه ، و قد توفي علي الأحمر عام 206 أو 207 هـ .
خامسا : يحيى البرمكي
———————- أبوه خالد البرمكي ، من أصول فارسية عريقة ؛ فقد كان جده برمك سادن بيت النار ببلخ ، و خالد هو مؤسس الأسرة البرمكية ولاه أبو العباس السفاح ديوان الخراج و الجند ثم غدا وزيرا و أقره المنصور في منصبه ، أما يحيى بن خالد صاحبنا في موضوع ” المناظرة القاتلة ” فقد تربى في كنف العباسيين و التحق بخدمة الخليفة المنصور الذي شمله بعطفه فولاه أمر أذربيجان و لما تولى المهدي الخلافة جعله كاتبا له و مسؤولا عن تربية ولي عهده هارون الرشيد ، و قد أرضعت زوجته هارون فصار ابنا لها في الرضاعة
و استمر كاتبا للرشيد عندما اعتلى سدة الحكم و صار الخليفة ، و كان الرشيد يعد يحيى بمثابة أبيه ؛ و جعله وزيره الأوحد فجمع له الدواوين و أطلق يده في شؤون الدولة يتصرف فيها كيف يشاء ، و يكاد يجمع من ترجموا له أنه كان من رجال الدهر حزما و رأيا و سياسة و عقلا و حذقا بالتصرف ؛ كما كان أكمل أهل زمانه أدبا و فصاحة و بلاغة ، و كانت قصور آل برمك مثابة القصاد من صفوة ذوي العقول الراجحة و الألسن البليغة : الشعراء و علماء اللغة و النحو و القراءات و الفقهاء و الأطباء و المترجمون و غيرهم ، و كانت تعقد حلقات النقاش و المناظرات العلمية في وجودهم ، و كانوا يجزلون العطاء لقصادهم حتى ضربت بهما الأمثال في الكرم و السخاء فقيل عمن كرم من الناس ” لقد تبرمك فلان ” للدلالة على شدة كرمه و سخائه فساهموا بقوة في ازدهار الحركة العقلية و الفكرية ببغداد التي صارت في عهد الرشيد بفضلهم حاضرة العلم و الثقافة و مركز الإشعاع الثقافي الأول في العالم القديم دون مبالغة ، و مما يذكر ليحيى بن خالد البرمكي تشجيعه لحركة الترجمة من الثقافات المجاورة كالهندية و الفارسية و اليونانية ؛ و دوره في إنشاء دار الحكمة ، و إليه ينسب حفر نهر القاطول ، و ظل يحيى بن خالد البرمكي و أولاده الفضل و جعفر و موسى و محمد في ذروة سنام المجد حتى نكبهم الرشيد عام 184 هـ ، و قد توفي يحيى في الحبس عم 190 هـ و له من العمر سبعون سنة .
بواعث المناظرة و دواعيها
—————————- ثمة بواعث لـ ” المناظرة القاتلة ” و دواع عامة أغلبها إن لم يكن كلها يعود في الأساس إلى المناخ العام الذي ساد ذلك العصر فقد كان عصرا يموج بالحراك الفكري و النشاط العقلي ، و تنوعت فيه التيارات العقلية و المذاهب الفقهية و المدارس اللغوية و النحوية ؛ و اتسعت دوائر الخلاف و الجدل و الحجاج بين أصحاب تلك التيارات و المذاهب و المدارس و تبعا لذلك كثرت المناظرات بينهم ،
كل جماعة تحاول الانتصار لما تعتنقه و تقتنع به من آراء و أفكار ، و لقد شجع اهتمام الخلفاء و الأمراء و الوزراء بالتفقه في اللغة و الشعر و الأدب و التزين بالعلم و التحلي بالمعرفة أمام مواطنيهم ؛ شجع ذلك الاهتمام التدافع العقلي و الفكري الذي كانت المناظرات أهم أشكاله ، كما أفضى انخراط بعضهم في غماره مع هذا الطرف أو ذاك إلى توهجه و ازدهاره ، و مما هو جدير بالذكر أن التدافع العقلي و الفكري لم يكن حكرا على مجتمع النخبة سواء السياسية أو العلمية بل تغلغل في أغلب طبقات المجتمع و لم يكن أيضا التدافع محصورا في نطاق عاصمة الخلافة فقط بل امتد إلى الأمصار و المدن الحواضر في ذلك العصر كالبصرة و الكوفة فلا غرو إذن أن تحتدم المنافسة بين مدرستي البصرة و الكوفة النحويتين (3) و تحاول كل مدرسة منهما إثبات أهميتها و أفضليتها و تأثيرها العلمي في مواجهة المدرسة الأخرى و لا غرو أن يتعصب علماء كل مدرسة منهما لمنهج مدرستهم العام في النظر إلى اللغة و معالجة قواعد النحو بل إن المنافسة بين البصريين و الكوفيين تجاوزت الحد فصارت غلوا و تعصبا و غدا ديدن كل فريق منهما تخطئة الفريق الآخر ، نفهم ذلك من خلال أخبار كثيرة منها مثلا ما حدث به أبو عثمان المازني حين قال : دخلت بغداد فألقيت علي مسائل فكنت أجيب على مذهبي ( أي المذهب البصري ) و هم يخطئونني على مذهبهم ( أي المذهب الكوفي ) .
فضلا عن تلك البواعث و الدواعي العامة هناك البواعث و الدواعي الشخصية فالمناظرة كالمباراة الرياضية بين الأشخاص وسيلة لاثبات المقدرة الفذة و الجدارة بالفوز على الخصم ، و النصر في المناظرة مدعاة للفخر و يملأ نفس المنتصر و نفوس شيعته بالكثير من مشاعر الفرح و السرور ، لهذا فإن كثيرين ممن يستشعرون في أنفسهم القدرة على إثبات أنهم الأفضل في مجال معين كانوا يسعون إلى طلب المنافسة من نظرائهم و أندادهم في ذلك المجال و ما أكثر المناظرات التي انعقدت بين العلماء في مجالات اللغة و النحو و الفقه و الكلام حتى بين أقطاب أو تلاميذ المدرسة الواحدة ، و للمناظرة القاتلة موضوع حديثنا في هذه السطور بواعث و أسباب شخصية فقد كان الكسائي عميد مدرسة الكوفة في النحو كما كان سيبويه على صغر سنه عميد مدرسة البصرة ،
فمن الطبيعي إذن أن يسعى كل منهما إلى منافسة الآخر لأن في انتصار أحدهما انتصارا لشخصه و انتصارا لمدرسته في آن معا ، و ما عزز من بواعث تلك المناظرة و دواعيها الشخصية أن الكسائي قدم مبكرا من الكوفة إلى بغداد حيث اتصل ببيت الخلافة كمؤدب للرشيد ثم للأمين بن الرشيد و هذا جعله يصيب جاها و ثروة كما سبق أن ذكرنا ، و لحرصه الشديد على ألا يفقد شيئا مما هو فيه من النفوذ و النعيم لم يكن من مصلحته أن يأتي من يزاحمه على شيء منهما و لم يأل جهدا في سبيل ذلك الهدف ، بدليل أنه حين أصيب بالـ ” وضح ” و استعفاه الرشيد من مهمة تأديب الأمين ظل يماطل و يسوف و يخترع المبررات تلو المبررات عسى أن يبقوا عليه فلما ألحوا عليه و خشي أن يفلت الأمر برمته من بين يديه اختار خلفا له أكثر تلاميذه ارتباطا و تأثرا به و أقلهم طمعا و طموحا في الحلول محله و هو علي الأحمر و لم يفعل ذلك إلا بعد أن خطط أن يكون له السيطرة على عملية التأديب من خلال إشرافه على تلميذه ؛ أما سيبويه فقد جاء من البصرة إلى بغداد متأخرا بحثا – كما يرى بعضهم – عن موطئ قدم في أحد قصور الأسرة الحاكمة فهو بما لديه من علم غزير قمين هو الآخر بأن يصيب جاها و جدير بأن يحصل ثروة ، و ربما جاء فقط من أجل مناظرة الكسائي و إثبات أنه على صغر سنه أكثر منه استيعابا لعلم النحو و إحاطة بمسائله و قضاياه ، و ربما جاء من أجل الأمرين معا .