حلمي النمنم يكتب :طه حسين ودرس «الفتنة الكبرى» (1)
فى صيف سنة 1972 طلب د. طه حسين قبل أن يبدأ إجازته المعتادة السنوية خارج مصر، إلى سكرتيره الخاص، د. محمد الدسوقى أن يعد مجموعة من المراجع سماها له، وأن يكون مستعداً لأن يملى عليه فور عودته الجزء الثالث من «الفتنة الكبرى» ثم يتلوه بالجزء الرابع، لكن عاد طه حسين من المصيف معتل الصحة تماما، وكان السكرتير وجد عملاً آخر خارج مصر، فترك د. طه ولم يره بعد ذلك نهائياً، حيث رحل العميد فى 28 أكتوبر 1973.
الواقعة ذكرها د. محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر الأسبق، زوج ابنة د. طه، فى كتابه «ما بعد الأيام»، كما أشار إليها د. محمد الدسوقى فى كتاب له صدر عن دار المعارف.
كان د. طه أصدر الجزء الأول من الفتنة الكبرى بعنوان «عثمان» سنة 1947، أما الثانى فكان بعنوان «على وبنوه»، صدر سنة 1953، وبعد توقف نحو عشرين عاما فكر فى أن يعد الجزء الثالث ثم الرابع، ترى ما الذى دفعه بعد هذه السنوات أن يقرر معاودة الكتابة فى الإسلاميات وتحديداً مشروع «الفتنة الكبرى»؟!
لم يكن د. طه بعيداً عن الدراسات الإسلامية يوما، هو ابن الأزهر فى الأصل، وهو الذى كتب مقدمة الطبعة الأولى سنة 1928 لكتاب أحمد أمين «فجر الإسلام»، يقدم بها مشروعاً ضخماً، اختص أحمد أمين فيه بتاريخ العقلية العربية والإسلامية، وهكذا أصدر فجر الإسلام ثم ضحاه وظهره، وتقرر أن يتناول د. العبادى التاريخ السياسى للإسلام، وطه حسين نفسه يتناول الحياة الأدبية، وفعل ذلك على نحو ما فى كتابيه «حديث الأربعاء» وكذلك «حديث الشعر والنثر»، فضلا عن أعماله الأخرى مثل «على هامش السيرة» فى أجزائها الثلاثة، ثم «الوعد الحق»، وفجأة فى سنة 47، أى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يطلع علينا بمشروع مختلف سماه «الفتنة الكبرى»، الذى أكد فى الصفحة الأولى من جزئه الأول أنه ليس عثمانى الهوى ولا متشيعا لعلى، ومن يقرأ الكتاب سوف يلاحظ أنه تجنب مسألة التاريخ التقليدى للفرق الإسلامية التى ظهرت مع تلك الفتنة وتشعبت تشعباً خطيراً، وتجنب الانزلاق إلى إدانة عثمان بن عفان وبنى أمية، كما سيفعل سيد قطب فى العدالة الاجتماعية حيث اتهم بنى أمية جميعاً فى دينهم، ولم يمنح د. طه حسين على بن أبى طالب قداسة خاصة كما يفعل بعض المتشيعين، وتجنب اتهام على بالتحريض على عثمان، كما يفعل البعض، وعنده أن المسألة كانت «أجل من عثمان وعلى وممن شايعهما وقام من دونهما، وأن غير عثمان لو ولى خلافة المسلمين فى تلك الظروف التى وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن»، أراد طه حسين أن يحكى ويشرح لنا كيف تلاعبت الأهواء والمصالح السياسية والدنيوية بالمسلمين وفهمهم للدين وتعاملهم معه، يقول هو «أحاول أن أبين لنفسى وأبين للناس الظروف التى دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة وما استتبعت من الخصومة العنيفة التى فرقتهم ومازالت تفرقهم إلى الآن، وستظل تفرقهم فى أكبر الظن إلى آخر الدهر».
ويمكن القول إن العنوان الذى اتخذه د. طه حسين لكتابه «الفتنة الكبرى» بات مصطلحا تاريخيا معتمدا فى الدراسات العلمية والأدبية لتلك الحقبة من التاريخ العربى والإسلامى، وتوصيفا دقيقا لما جرى.
لم يكن ذلك الملف المؤلم بعيداً عن لحظة التناول، سنة 1947، وهى لحظة شديدة التعقيد، كانت جماعة الإخوان ومرشدها حسن البنا فى فترة من فترات التوحش بالمجتمع المصرى، والسعى للعصف بكثير من قيمه ومقوماته، وكان باديا أمام طه حسين وغيره أن بعض المحيطين بالديوان الملكى يستغلون البنا وجماعته لبعض الأهداف السياسية قصيرة المدى، وكان البنا يستغلهم لاختراق المجتمع المصرى، بل ومؤسسات الدولة ذاتها، وكان فى المشهد القضية الفلسطينية، وقد نبه د. طه حسين إلى خطورة ما يجرى على أرض فلسطين فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما أعاد التنبيه إليها على صفحات مجلة «الكاتب المصرى»، وكانت الأمور تتعقد، الحاج أمين الحسينى ومن معه يرونها قضية دينية تاريخية، صراع إسلامى- يهودى، وكان تحركهم على هذا النحو فى كثير من الخطوات، وكان الغرب يريد أن يتطهر من جريمة «الهولوكوست» ومن تاريخ طويل لاحتقار واضطهاد اليهود بأن يلقى بهم فى فلسطين، ويتدخل بقوة لإقامة دولة إسرائيل.
وفى هذا المناخ الملىء بتوظيف الدين سياسياً وسلطوياً لتدمير مجتمع مثل المجتمع المصرى من قبل الإخوان، وتصدير أزمة الصراع الإسلامى- اليهودى إلى مصر، جاء كتابه «الفتنة الكبرى».
يمكن القول إن «الفتنة الكبرى» التى قادت إلى مقتل عثمان بن عفان، ثم الصراع بين على وأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فى موقعة الجمل، وبعدها موقعة صفين بين على ومعاوية، والتى انتهت بهزيمة على ومقتل حوالى عشرين ألف مقاتل على الجانبين، طبقا لأقل التقديرات، ثم اغتيال الإمام على، تعبر عن لحظة بالغة السلبية فى التاريخ الإسلامى، اختلطت فيها الرؤى والمفاهيم، وبات الصراع إلى حد كبير على مصالح مادية مباشرة، لذا توقف عندها طه حسين فى لحظة التأزم الاجتماعى والوطنى الذى مر بمصر وبالمنطقة كلها، كانت القضية الوطنية محتدمة، الاستعمار لا يريد أن يرحل ومصر تضغط طلبا للاستقلال التام، والنضال فى تونس والجزائر والمغرب على أشده ضد استعمار استيطانى، وفى المشرق العربى تتعقد القضية الفلسطينية وتتحول المشاعر الدينية إلى غطاء للصراعات السياسية والاجتماعية والقضايا الوطنية الكبرى، وغير ذلك فإن المشاكل الاجتماعية تتفاقم من ازدياد الفقر والتهميش، كان هدف طه حسين فى كتابه التحذير والتنبيه إلى ما نحن مقدمون عليه وإلى أنه لا يجب أن نسمح لأحد بأن يأخذنا إلى لحظة سلبية وموجعة فى التاريخ الإسلامى كله. لذا جاء كتابه بعيدا عن السرد التاريخى التقليدى والفهم المدرسى، بل كان تحليلا عميقا لموقف كل طرف، بهدف الفهم والتبصر وليس الحكم على أى طرف من الأطراف وإصدار صك براءة أو حكم إدانة لأى طرف، ويأخذ القارئ بهدوء مع الفجيعة الإنسانية الكبرى، حين تجد الصحابة يتقاتلون ويتنابزون، وحين تتراجع القيم الإنسانية السامية التى رسخها الدين لصالح النزعات الفردية الآنية والعابرة، وكأننا فى تراجيديا يونانية، ونرى لحظة الهزيمة التى تجعل الأقربين حتى بالدم يتباعدون ويبحث بعضهم عن الخلاص الفردى، وحين يحصل طرف على انتصار وهو يدرك أنه وصل إليه بطرق وأساليب لا تقرها روح الدين ولا حتى أخلاق البيئة العربية القديمة. وفى هذا الطريق تمزقت روابط كثيرة وانهارت نماذج مضيئة.
كانت رسالة الأستاذ العميد أنه لا يجب لنا أن نسمح بعودة «الفتنة الكبرى» مرة ثانية، وليس لأحد أن يتصور نفسه على بن أبى طالب المنافح صدقا ونبلا عن الدين، ولا لأحد أن يرمى خصومه بالكفر والبعد عن الدين، باختصار ليس لأحد أن يرفع علينا شعار «الحاكمية».