انضم الاستاذ الدكتور محمد حسن غانم أستاذ ورئيس قسم علم النفس – كلية الاداب- جامعة حلوان الى كتاب مصر المحروسة . نت ويقدم سلسة من الدراسات النقدية التى تجمع بين تطبيق علم النفس وبين نظريات النقد للأعمال الادبية وننشرها على حلقات والبداية مع ديناميات صور السلطة لدى المسجون ….دراسة تحليلية لرواية نجيب محفوظ
اللص والكلاب:
مقدمة الدراسة: “تعد السلطة من الموضوعات الأساسية التي تلعب دوراً مهماً في حياة كل فرد فكما أن الفرد لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين، بل لابد له من التواجد مع الآخرين بدرجة ما، وحتى في حالة الحضور الفعلي للآخر – كما بين ذلك التحليل النفسي – نجد الفرد يتواصل مع الآخر على المستوى المتخيل المهتلس (أي الهلامي) . كما أن غريزة الاجتماعي هذه تلازمه منذ خروجه إلى الدنيا حتى رحيله عنها، فما هو نفسه إلا وليد اجتماعي بين ذكر وأنثى من الناس، وهو يدخل منذ ولادته فيما يكونان من مجتمع صغير هو الأسرة، لأنه محتاج إلى رعاية الأم وكفالة الأب، فإذا بلغ أشده وأستوى فيما بعد – ضرب في الأرض سعياً وراء الرزق مختلطاً بغيره من الناس في ذلك المجتمع الأكبر متبادلاً وإياهم النفع من مجموع ما يبذل ويبذلون من نشاط. كذلك استتبع وجود الفرد مع الآخرين وخضوعه للسلطة التي تقوم بدور مهم ورئيسي في عملية التشريع والضبط الاجتماعي “والذي يعد كقوة فعالة في تنظيم السلوك الاجتماعي والثقافي في الأشكال الأكثر بدائية وقدماً للحياة الإنسانية فكما أن الفرد محاط بالغلاف الجوي له فهو أيضا محاط من الميلاد إلى الوفاة بالضبط الاجتماعي الذي ربما لا يكون مدركاً ما لم تقوده تجربة غير عادية للتعرف”.. ويكاد يجمع علماء النفس اليوم على أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل تلعب الدور الحاسم والرئيسي في تشكيل شخصيته وفيها توضع بذور الصحة والمرض وليس هذا فحسب بل “لقد اتضح أن العواطف والاتجاهات الأولى التي تتكون لديه في هذه المرحلة ذات أثر عميق بارز في تعيين موقفه من المجتمع وفي تشكيل نظرته العامة إلى الدنيا ومختلف اتجاهاته وقناعاته. فمن نشأ في بيئة عدوانية لم يشعر بالصداقة أينما ذهب، ومن نشأ على تربية قوامها الاستغلال وسوء المعاملة توقع هذا من المجتمع وتصرف وفقاً لما يتوقعه منه المجتمع مما يحول دون حبه واحترامه وكل صلاته بالكبار، أو من يمثلون السلطة أو النفوذ – صلات عثرة يغشاها التحدي أو العدوان. وإذا نظرنا إلى الفرد وجدناه بحكم فترة طفولته الكبيرة نسبيا يكون أكثر اعتماداً على والديه ومن هم أكبر منه في معيشته، فنحن نعتمد على الكبار في إطعامنا وفي حمايتنا من كافة الأخطار التي تحيق بنا “فتبعاً لمدة طفولتنا الطويلة، نحن جميعاً نتعلم بعض التصرفات الاعتمادية الخضوعية، ولكن نظراً للخبرات المتنوعة فنحن لا نتعلم جميعاً تصرفات واحدة فالأم هي مصدر السلطة بالنسبة للطفل، وهي أيضاً لإشباع حاجاته وأول موضوع لحبه والاستمالة – لا الإجبار – كما يقول مورتن Morton– هي أساس السلطة”. كما أن السلطة الوالدية تعد أول مصادر التشريع في واقع الفرد، تلك التي يستدمج صورتها الطفل ويتوجد بأوامرها ونواهيها في البدايات الأولى لوجوده والقمع الذي يمارسه الآباء على أبنائهم إنما يعبر عما يستشعرونه من قهر الواقع الاجتماعي لهم ومن ثم ينتقفل عبر عمليات التنشئة الاجتماعية إلى الأبناء.. وقد استنت لهذا المجتمع مجموعة من القوانين على جميع الأفراد الالتزام بها، ومن هنا فإن الخروج على هذه القوانين يعد جريمة لأنه هدم، أو عدم اعتراف بسلطة المجتمع. والعلاقة بين السلطة والمجرم علاقة جدلية عدائية، لأن السلوك الإجرامي ما هو إلا سلوك مضاد للمجتمع، والفرد بارتكاب الجريمة إنما يقع مباشرة في قبضة السلطة، أو في مواجهة سلطة المجتمع التي تسعي جاهدة إلى وسيلة الردع “وقد أمكن فصل فئة من الجرائم تكشف عن حساسية مرتكبيها حيال كل ما يمثل النفوذ أو السلطة، ويكون الدافع الرئيسي لها كراهية لا شعورية نحو الأب نجمت عن حل غير موفق للصراع الأوديبي لكنها لا توجه مباشرة إلى شخص الأب ذاته بل تزاح وتنقل في صورة تمرد أو عدوان على كل ما يمثل سلطة الأب وقيوده على الرؤساء، وهؤلاء لا يطيقون السلطة في أي مظهر من مظاهرها، وليس هذا بمستغرب إذ من الثابت أن العدوان إن فشل في توجيهه على المعتدى اتجه إلى بديل عنه، إلى رمز له، وكبش الفداء في حالتنا هو السلطة. وقد تم الاتفاق على أن يكون السجن هو المكان الذي يتم فيه عزل هؤلاء الأفراد المجرمين بهدف إصلاحهم، أو تهذيبهم، أو حتى إيلامهم حتى يعودوا – بعد قضاء مدة العقوبة، أو الإصلاح – مواطنين غير عدوانيين تجاه المجتمع ومؤسساته.. والسجن يعد “كمجتمع مغلق يحتوى بداخله على عدد كبير من البشر يختلفون في الأعمار والجرائم والمستويات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنهم في النهاية يعيشون معاً ويجمعهم لقب مذنب أو محبوس. ونحن على قناعة بأنه “لم تعد مهمة الباحث في ميدان الجريمة أن يدين المجرم أو يعاقبه، أو يصدر عليه حكماً أخلاقياً، بل أصبحت مهمته أن يبحث في أعماق المجرم، أو يعيد النظر في سلوكه مبتدئاً بفكرة أنه إنسان فقد توافقه مع نفسه وجماعته، ولجأ للجريمة حتى يستعيد هذا التوافق المفقود. والواقع أن الدراسات النفسية التي تناولت الأعمال الأدبية جد قليلة، بالرغم من أن العديد من علماء النفس قد اتجهوا إلى فهم شخصية مجتمع من المجتمعات بطرق متعددة أبرزها دراسة الإنتاج الأدبي الذي ينهض على مسلمة مفادها أن الإنتاج الأدبي لشعب من الشعوب لابد وأن يعكس طبيعته المختلفة خاصة الطابع القومي لذلك الشعب. إضافة إلى أن العمل الأدبي – كما يذهب فرويد – ينطوى على لب أو جوهر الوجود البشري. والذي يتم تأويله وفقاً لظروف الواقع الاجتماعي، ويرى أن درجة شيوع أو انتشار العمل الأدبي، أو الفني هي مقياس لقدرة هذا العمل على التعبير عما هو مشترك بين الكاتب وجمهوره. والمعلوم أن الأدب يسبق علم النفس في كشف مجاهل الإنسان هذه حقيقة بديهية إذ أن إنجازات الأدب من رواية وقصص وأساطير ومسرحيات وأشعار بل وحتى خرافات قد فتحت المجال لدراسة الإنسان من حيث هو إنسان. وهذا إقرار سيجموند فرويد بذلك (1856-1936). ولذا فإن فرويد S. Froud– يخلع نوعاً من القداسة والأهمية على العاملين في مجال الإبداع إذ يقول: “الشعراء والروائيون يعرفون بين السماء والأرض كثيراً من الأشياء التي لم تزل حكمتنا المدرسية لا تستطيع الحلم بها، فهم أساتذتنا – نحن البشر العاديين – في فهم الناس لأنهم ينهلون من متابع لم نجعلها قابلة للإدراك العلمي بعد. وإذا فقد وضع سيجموند فرويد فلسفة خاصة لفهم الإنسان من خلال الفن فتعامل مع التراث الإنساني تعامله مع الكائن البشري في طفولته (البدائية). وتطوره في اتجاه الرشد وما يصيب حياته من ضروب القلق التي تبعث على الكبت وتدفع إلى تطوير ميكانيزمات دفاعية أخرى يمكن استثمارها في عالم اللعب الطفولي وأحلام اليقظة والنوم، ولذا فإن سيجموند فرويد يرى أن ثمة بنية مشتركة بين أحلام الليل النموذجية، وبعض الآثار الأدبية (أو المنتج الأدبي بغض النظر عن نوعه) باعتبارهما نشاطاً لا شعورياً يهدف إلى إشباع مقنع لرغبة مكبوتة والواقع أن ما حفزني إلى القيام بهذه الدراسة أمران: الأول:لم نعثر على دراسة قد تناولت هذا الجانب الثري (صورة السلطة لدى المسجون) من خلال التناول السيكولوجي لعمل روائي وبالتحديد لرواية اللص والكلاب، والتي تمثل – بحق – ثراء في تناول علاقة الفرد بالسلطة. الثاني: أن نجيب محفوظ قد ذهب إلى القول بأن “تجربة اللص والكلاب تستحق أكثر من دراسة لأنها الوحيدة في أعمالي التي يتعرف الناقد والقارئ العادي فيها على العمل الأصلي والعمل الفني معاً، فنستطيع أن نرى كيف تناول العمل الفني الحقيقة وأعاد خلقها لأهدافه الخاصة. إذ من المعروف أن الرواية تتناول حكاية شخصية سفاح شهير وآنذاك هو الذي أوحي لنجيب محفوظ برواية “اللص والكلاب”. متحدثاً ومثيراً لقضية الصراع الأبدي والمتجدد بين الفرد والسلطة والتي لا يستطيع الفرد الفكاك من تأثيراتها عبر مراحل حياته المختلفة. مشكلة الدراسة وأهميتها: تتحدد مشكلة الدراسة في تتبع ديناميات صورة السلطة لدى المسجون من خلال التحليل النفسي لرواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، ذلك لأن الأدب في أوسع معانيه ما هو إلا تصوير دقيق للنفس الإنسانية، ولذا فإن الأدب الإنساني الرفيع والراقي لا يقتصر على التجربة الشخصية للأديب، بل لابد وأن تندمج معها – وفيها – تجارب تاريخية وأسطورية واجتماعية بل وحتى خيالية مما يجعل مفهوم الأدب – بحق – يتسع ليعبر عن جوهر ولب الوجود الإنساني كما أن علاقة التحليل النفسي بالأديب قديمة جداً من ناحية، ووثيقة جداً من ناحية أخرى، وأن فرويد يعترف – في أكثر من موضوع – بأنه تعلم من دوستوفسكي، وسوفوكليس، وغيرهما من أساتذته من الأدباء لأنهم أدركوا بحسهم الأدبي وبصيرتهم الفنية ما انتهي هو إلى تقريره بمناهج البحث العلمي. أهداف الدراسة: تهدف الدراسة إلى :- التعرف على ديناميات صورة السلطة بأشكالها المتعددة كما يدركها بطل رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ.
- التعرف على العوامل والتفاعلات التي قادت إلى هذه الصورة العدائية تجاه كافة أشكال السلطة.
- التعرف على مدى سواء أو عدم سواء بطل رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ من خلال محكات الصحة النفسية.
- أن الدراسات التي تناولت أعمال نجيب محفوظ – ومن منطلقات متعددة – لم تناول قضية علاقة الفرد بالسلطة (وهو ما نحاول تناوله في هذه الدراسة).
- حتى الدراسات القليلة التي تناولت رواية “اللص والكلاب” لم تتناول هذه القضية بصورة تحليلية نفسية، إذ تناول – مثلاً – أحمد خيرى حافظ (1985) قضية اضطراب العلاقة بالأخر، وكيف أن اضطراب وعدم سواء المجتمع يقود حتماً إلى اضطراب الأفراد لكن ذلك يثير تساؤلاً لماذا يضطرب البعض من الأفراد ولا يضطرب البعض الآخر؟! وهنا يتحتم البحث في سيكوديناميات هذا الشخص المضطرب / المتمرد على السلطة لسبر أغواره وصولاً إلى مصدر هذا الاضطراب بل وفهم دلالته ومغزاه.. إلى آخر العديد من التساؤلات.
- ما هي ديناميات صورة السلطة لدى المسجون (بطل رواية اللص والكلاب وتحديداً البطل سعيد مهران). كما تتضح من خلال تحليل مضمون الرواية؟
- ما هي العوامل التي تشابكت وتفاعلت وقادت إلى الصورة العدائية لكافة أشكال السلطة كما تتضح من خلال تحليل مضمون الرواية؟
- ما هو موقع بطل رواية اللص والكلاب (سعيد مهران) على متصل السواء وعدم السواء النفسي من خلال التحليل النفسي لمضمون الرواية؟
- لأنها الرواية الأولى لإبداعات نجيب محفوظ، بل وفي الأدب العربي عموماً التي تستخدم مجرى تيار الشعور. ولاشك أن ذلك الأسلوب هو الأقرب إلى المنولوج الداخلي “ولا شك أن ذلك ييسر للباحث مهمته، فهو يتناول الرواية على أنها “تداع طليق” من شخص أشبه ما يكون في جلسة التحليل النفسي، ومن خلال هذا التداعي تتحدد الأفعال النفسية التي تحدد ملامح البطل الأساسية، ويسهل أيضاً استخدام المعطيات اللاشعورية.
- أنها الرواية التي من عنوانها تستطيع أن تحدد طرفي الموضوع، فالأنا، أو أشكال السلطة، كما يدركها الشخص المجرم، ولاشك أن ذلك يسهل مهمة الباحث حتى يتحدد الموضوع ومنذ البدء.
- أن هذه الرواية بالذات تحدد مدى عبقرية نجيب محفوظ، إذ استطاع أن يحول قصة المجرم الذي أطلق عليه “السفاح” في ذلك الوقت وتحديداً في أواخر الخمسينات وبداية الستينات (من القرن العشرين) إلى رواية توضح معالم الصراع بين الفرد الذي يسعي إلى التغيير والتمرد، وكذا توضح معالم الصراع بين الفرد الذي يسعي إلى التغيير والتمرد، والسلطة التي تقف أمام كل ذلك.
- أن دراسة علاقة الفرد بالسلطة من الموضوعات الجديرة بالبحث والدراسة المستمرة، لأن هذه العلاقة لا تنفصم، كما أن الفرد لأبد أن يكون له موقف من السلطة بغض النظر عن طبيعته. ولذا فإن “الفرد والسلطة” من الموضوعات الجوهرية لدى الإنسان والتي مازالت في حاجة إلى إلقاء مزيداً من الأضواء حولها وتتبع الآثار والنتائج.