د. جهاد عوده يكتب : التوسع الأسرائيلى فى العلاقات مع أفريقيا وما له من تأثير
تعمدت أن أشير إلى برنامج الزيارة بشيء من التفصيل، لكي تتضح الطبيعة الشاملة لهذه الزيارة، وهو أمر ليس بمستغرب على إسرائيل التي تنشط في أفريقيا منذ خمسينات القرن الماضي، أي في أعقاب نشأتها مباشرة، إذ كان لديها شعور مبكر وسليم استراتيجياً بأهمية أفريقيا بالنسبة إليها، خاصة بالنظر إلى المقاطعة التي فرضتها الدول العربية عليها. وبعد حرب السويس 1956 ضمنت إسرائيل منفذاً بحرياً مباشراً إلى أفريقيا عبر البحر الأحمر، بعد أن أصبح بمقدورها الولوج إلى هذا البحر عبر مضايق تيران المصرية بموجب التسوية التي تمت في ذلك الوقت لانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من سيناء وغزة م
قابل المرور عبر تلك المضايق، واستطاعت إسرائيل أن تحقق بذكاء التخطيط وحسن استخدام الإمكانات المتاحة ما جعلها تتبوأ مكانة لدى الدول الأفريقية لا تتناسب على الإطلاق وطبيعتها الاستعمارية الاستيطانية. ومن عجب أن إسرائيل استطاعت أن تنافس مصر في ذلك الوقت في أفريقيا على الرغم من أن مصر كانت تلقي بثقلها كاملاً في دعم حركات التحرر الأفريقية، وتحظى بمكانة رفيعة لا شك فيها لدى الدول الأفريقية حديثة الاستقلال لهذا السبب، وقد نجحت إسرائيل في هذا الصدد من خلال التصوير الزائف لنشأتها على أنها بدورها دولة حديثة الاستقلال، لم تتمكن من نيله إلا بعد كفاح شرس خاضته ضد الاحتلال البريطاني، وهذا بالإضافة إلى استغلال بعض نقاط التفوق في الخبرة الإسرائيلية، كما في مجالات الزراعة والأمن والدفاع، لتقديم خدمات ومساعدات للدول الأفريقية في هذه المجالات كانت دون شك موضع عرفان الدول الأفريقية وتقديرها. وقد بلغ النجاح الإسرائيلي في أفريقيا الدرجة التي جعلت الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه أمام مؤتمر القمة الأفريقي الأول (1964)، الذي انعقد في القاهرة في السنة التالية مباشرة لتأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، يحجم عن محاولة السعي لقطيعة بين الدول الأفريقية وإسرائيل، مؤكداً في ذلك الخطاب أنه يثق في أن الأيام والتطورات ستكشف لهذه الدول حقيقة إسرائيل.
وقد كان. وبدا أن عدوان إسرائيل على الدول العربية في1967 عامل مهم في تحول الموقف الأفريقي من إسرائيل، ولاسيما أنها أصبحت بعد العدوان تحتل أراضي تابعة لدولة أفريقية بوزن مصر، ولذلك بدأ معظم الدول الأفريقية يقط
ع علاقاته مع إسرائيل، ولم تأت حرب أكتوبر1973 إلا كانت هذه الدول قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل فيما عدا مالاوي وليسوتو وسوازيلاند، وإن تكن قوة التعاون الذي تحقق في السابق بين إسرائيل والدول الأفريقية قد جعلت بعضها يبقي على اتصالات بإسرائيل، إما سراً وإما من خلال مكاتب تمثيل لها ضمن سفارات أجنبية. كذلك استمر الطلبة الأفريقيون في التدفق إلى إسرائيل، وبقي الخبراء الإسرائيليون يعملون في أنحاء القارة الأفريقية.
غير أنه مع التوصل إلى السلام المصري-الإسرائيلي في1979 أصبح من الصعوبة بمكان الدفاع عن منطق المقاطعة الأفريقية لإسرائيل، فقد توصلت الدولة الأفريقية الوحيدة التي تحتل إسرائيل جزءاً من أراضيها إلى حل سلمي لمشكلاتها مع هذه الدولة. وحتى لو كانت الدول الأفريقية تهتم بالصراع في حد ذاته، وليس لكونه يتضمن دولة أفريقية مهمة، فإن معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية أصبحت نموذجاً لدى معظم هذه الدول لما يج
ب أن تكون عليه التسوية في باقي مسارات الصراع. وهكذا لم ينصرم القرن الماضي إلا كانت العلاقات الرسمية قد تم استئنافها مع 39 دولة أفريقية جنوب الصحراء وصولاً إلى الحالة الراهنة للتعاون بين الطرفين، والتي لا تمثل جولة ليبرمان الأخيرة في أفريقيا سوى قمة جبل الجليد فيها، خاصة مع ملاحظة أن الدول الأفريقية الخمس قد استقبلت وزير الخارجية الإسرائيلي بحفاوة وترحاب، فيما هو يكاد أن يكون شخصاً غير مرغوب فيه أوروبياً وأمريكياً وعربياً. لذلك فإنه من الأمور التي تستوجب إمعان النظر تلك اللامبالاة العربية بهذه الزيارة على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي، وربما يكون الاهتمام الإعلامي العربي مؤشراً جيداً على هذه اللامبالاة، ولقد توقفت طويلاً أمام حقيقة عدم نشر حرف واحد عن الجولة في واحدة من كبريات الصحف العربية.
والواقع أن اهتمام الدول العربية بأفريقيا يبدو جزئياً وقطرياً في الوقت نفسه، فهو جزئي لأن العرب “الآسيويين” لا يظهرون حماساً كبيراً لتطوير العلاقات مع أفريقيا. صحيح أن لديهم ما يشغلهم من تهديدات إسرائيلية ومن دول جوار، ومن خلافات بينية، ومن انشغال بترتيب البيت الداخلي في بعض دولهم، لكن بعضهم يصل أحياناً إلى حد محاولة تحجيم الاهتمام العربي بأفري
قيا. وتقدم أزمة الصندوق العربي للمعونة الفنية للدول الأفريقية التابع لجامعة الدول العربية مثالاً دالاً في هذا الصدد، فعديد من الدول العربية “الآسيوية” يمتنع عن سداد حصته في ميزانية هذا الصندوق على أساس مبدئي، إذ يرى أنه لا لزوم له أصلاً، علماً بأن ميزانية الصندوق ومن ثم حصة أية دولة عربية فيها شديدة التواضع، وأنه بغض النظر عن التنافس الأمريكي-الفرنسي على النفوذ في أفريقيا فإن ثمة جارة للعرب “الآسيويين” هي إيران تقوم بنشاط منهجي دؤوب في أفريقيا، وأخشى ألا نتنبه إلا حين تضيع أفريقيا من العرب تماماً، سواء لحساب قوى عالمية أو إقليمية في وقت سنكون في أمس الحاجة إليها ساحة لاستثمار رؤوس الأموال العربية بعد أن فقدت ضماناتها التقليدية في دول الشمال المتقدم، ومصدراً للموارد في زمن شح متزايد لهذه الموارد، وملاذاً للدعم الدبلوماسي في المعارك التي يتعين على العرب أن يخوضوها في الساحة الدولية.
أما الطابع القطري للاهتمام العربي بأفريقيا فهو يشير إلى أن الدول العربية الأفريقية المهتمة بما يجري في القارة السمراء تؤسس اهتمامها على مصالحها القطرية، وليس على المصلحة العربية العامة أو حتى مصلحة الدول العربية في شمال أفريقيا بصفة خاصة، وليس أدل على ذلك من أن الاهتمام المصري بأفريقيا ينصب أساساً على مسألة المياه، وعلى بعض القضايا التي تحتاج دعماً دبلوماسياً أفريقياً، كشغل مناصب أفريقية ودولية رفيعة. ولا تستثنى من هذا ردود الفعل المصرية على جولة ليبرمان الأخيرة في أفريقيا إذ لم يكن بمقدور الدوائر الرسمية المصرية أن تعلق على نحو سلبي على الجولة بالنظر إلى علاقات السلام الرسمية مع إسرائيل، لكن المقلق أن بعض هذه الدوائر أظهر استخفافاً بهذه الجولة، مبدياً عدم القلق من نتائجها، والثقة في أنها لا يمكن أن تؤثر على المكانة المصرية في أفريقيا، وهي نظرة قصيرة المدى دون شك بفرض صحتها أصلاً. أما الدوائر غير الرسمية وبالذات الصحف المستقلة والمعارضة فقد أبدت انزعاجاً شديداً من الجولة وخطرها على الحقوق المصرية المكتسبة في مياه النيل، خاصة وأن الجولة قد شملت ثلاثاً من دول حوض هذا النهر، وأعقبت إخفاق المفاوضات الأخيرة بين هذه الدول حول اتفاقية إطارية تنظم حقوقها المائية.
ومن الحقيقي أن المسألة المائية شديدة الحيوية لمصر، غير أنه من الخطأ اختزال التحرك الإسرائيلي في أفريقيا في هذه المسألة وحدها، ولعل من الواضح أن جولة ليبرمان قد بنيت على المنظور الاستراتيجي ذاته الذي استند إليه النشاط الإسرائيلي في أفريقيا منذ أكثر من نصف قرن. ويظهر هذا سواءً من تركيب الوفد الذي صاحب ليبرمان، أو من طبيعة اللقاءات التي تمت، أو الاتفاقيات التي وقعت، أو التفاهمات التي تم التوصل إليها أثناء الجولة. والشيء الواضح الذي يجب تأكيده للأسف هو أنه لا يوجد بالمقابل منظور عربي استراتيجي واحد لأفريقيا، على الرغم من أهميتها بالنسبة للعرب استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً في سعيهم إلى تحسين وضعهم في النظام الدولي. لكن السؤال يبقى: هل يستطيع العرب أن يبلوروا هذا المنظور إذا غابت الرؤية الاستراتيجية أصلاً لأهمية أفريقيا من منظور المصالح العربية؟ وهل يستطيعون ذلك في وقت يحتاج فيه بيتهم إلى الترتيب من الداخل لا على صعيد العلاقات بين دولهم فحسب، وإنما على صعيد الوضع الداخلي في عديد من الدول العربية ذاتها؟
