Sign in
Sign in
Recover your password.
A password will be e-mailed to you.
في العصر المعَوْلمَ يجب التدقيق في مسألة البدائل المتاحة وعدم المجازفة برأي أو خيار أو موقف، لأن عواقبه وخيمة عند سوء التقدير. والحياة السياسية الدولية تقدّم لنا في العقود الأخيرة شواهد على خيارات سيئة، جاءت على غير ما توقع لها الساسة والفاعلون.
ومن ثم فإن العصر المعولم الذي وضع حداً للجغرافيا (نهاية الجغرافيا) على حد تعبير بول فيريليو، صار يأبى السياسات المرتجلة والمبادرات المنفعلة وحرق المراحل والاستعجال بخطف النتائج أو فرضها بالقوة. فقد صار عصر التكنولوجيا الفائقة في تعبيراتها العلمية والمعلوماتية يستدعي الفلسفة التي تبحث في أصول ومصائر الأشياء والظواهر، ومنها الإرهاب من حيث المفهوم ومعانيه على مستوى الواقع. وأفضل سبيل إلى تلمس فهم سليم لما يصدر عن الحكومات والمؤسسات، هو إعادة الظواهر والوقائع والأحداث والمواقف إلى سياقاتها الظرفية وأصولها التاريخية ودلالتها الموضوعية.
وهكذا، فان النظرة الكلية القائمة على المبادئ والأسس، وتستند إلى القيم والمثل هي أسلم الطرق لمعرفة الحقائق والاطمئنان إلى آثارها اللاحقة. في الغالب نعرف الفعل لكننا لا نكترث لفعل الفعل. وفي الغالب أيضا أننا نقدر الأخطاء والإخفاق ولكننا نعلقهما على الأخرين.
ولعل واحدة من الأسباب التي باغَتَ فيها الإرهاب العالم كله، هو التقاعس والتلكؤ عن تحديده وتعريفه بشكل نزيه وموضوعي، لأن الإرهاب صار ظاهرة تتغذى من سياسات متطرفة قائمة على التَّعَنُّت حيال الآخرين، مثل ما قامت به إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن (2000- 2008) وما تواصله الدولة العبرية، وما تستأنفه إدارة ترامب حاليا. وعليه، فإن ما يدركه المفكر والفيلسوف في ظاهرة الإرهاب في العصر الفائق المعولم، أن الدول تُبْطن الإرهاب ولا تحاسب عليه وتعلقه على الجماعات التي تخرج عن طاعة الدولة وتعصيها. يستطيع مثلا المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي أن يوصف الإدارة الأمريكية في عصر الرئيس بوش بأنها صانعة الإرهاب في العالم، كما يمكن للفيلسوف الفرنسي الراحل جاك داريدا أن يوصف الإدارة نفسها بأنها الدولة المارقة رقم واحد، لأنها آلت على نفسها توزيع تهمة المروق والإرهاب والعنف… على من وما يحلو لها. ومصدر الخطر الكبير في هذه الحالة، هو الاستئثار والانفراد بإرادة القرار والحكم في علاقات دولية شديدة التوتر والحرج، كما يتجلّى ذلك في عصرنا الراهن، مثل ما يفعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما أعلن بإرادة منفردة أن القدس عاصمة الدولة الإسرائيلية. قرار ارهابي من طراز فائق.
ويوضح تشومسكي صلة أمريكا بالإرهاب على النحوالتالي: «إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الإرهابية رقم واحد على الصعيد الدولي، وأن الإرهاب المنتشر في العالم اليوم، خاصة في الشرق الأوسط، هو بصورة من الصور صنيع سياستها الخارجية، سواء أكانت تدري أو لا تدري. فباعتبارها قوة عظمى في العالم لا تَعُدّ ولا تَحْسب تصرفاتها تصرفات إرهابية، ما دامت خولت لنفسها محاربة الدول الإرهابية والمارقة، سواء بالرجوع إلى مجلس الأمن أو بالسياسة المنفردة».
إذا كانت هذه المقالة لا تتسع للحديث عن يوم 11 سبتمبر2001 كحدث مشهدي يذكرنا بيوم القيامة، لأنه مشهد مكثف لما قبله وما جاء في سياقه، خاصة لدى الإدارة الأمريكية التي عاصرت الحدث، وذات الوجهة الإنجيلية المتغطرسة، فإن الباحث والمفكر لا يمكنه إلا أن ينتهي إلى قناعة بأن الحدث الكبير في حد ذاته حبلت به أوضاع جديدة خلّفها سقوط حائط برلين، تفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومته الشيوعية. وكان السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح في حينه، أي مطلع التسعينيات من القرن الماضي هو.. ثم ماذا؟ لكن القوى العظمى النّافذة في العالم تَلَكَّأت وتَقَاعَست عن تقديم الجواب الصحيح والسليم، بل استأثرت مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بنتائج العصر الجديد واستغلّته في الزمن الفائق جاعلة من نفسها «إمبراطورية» في غير عصرها. فلم تسع إلى إعادة صياغة وترتيب العلاقات الدولية نحو مزيد من العدالة والإنصاف وإدراج الوحدات السياسية من دول المعمورة إلى دائرة الفاعلية والمسؤولية والالتزام القانوني بالشرعية الدولية.
إن الانفراد بالقوة والاستئثار بها والرغبة المتواصلة في الاستغلال الحصري لثروات ومنافع الدنيا الجديدة، كما فعل الليبراليون الجدد في عهد بوش الابن، أوحى بفكرة الكارثة الأكثر مشهدية والبحث عن أبشع أساليب الدمار والخراب، أي الفعل الإرهابي العنيف المسَاوق للقوة الفائقة المسيطرة على
العالم، والبحث عن تبريراته ومسوّغاته في النصوص الدينية، لإضفاء المصداقية والقناعة على أخروية (من اليوم الآخر) الفعل الإرهابي. وهكذا، فإن الإرهاب، كما يجري التعامل معه في الوقت الراهن، ليس ظاهرة مستقلة ومكتفية بذاتها، بل تتغذى من الظلم الفادح والفاضح للسياسة الأمريكية – الغربية في العالم. والأصولية الدينية ليست بعيدة عن هذا الواقع، وقراءاتها واجتهاداتها محكومة بمخزون العداء التاريخي للغرب وما يصنعه في العالم العربي والإسلامي. ومن هنا ، فالحدث المدلهم ينطوي على دلالة رمزية قوية جدّا، لأنه جاء مع مطلع الألفية الثالثة، وأوحى بصورة فرسان الآخرة، عبّر في نهاية المطاف عن كلفة باهظة دفعتها الدولة الأمريكية ومعها بقية العالم بسبب تغاضيها عن إسعاف مناطق عديدة من العالم، خاصة الشرق الأوسط، كانت تحتاج إلى سياسات رشيدة وحكيمة، بعد أن خلا لها الجو بالانفراد بالقوة الفائقة وصارت تبحث عن المطلق لتتصف بالألوهية. فالبحث عن المطلق والتوهم بالوصول إليه هو إعلان عن وشوك وقوع الكارثة، وعادة ما تحدث على حين غرة مثلها مثل الكوارث الطبيعية. ومع محاولة امتلاك الإنسان القدرة على تدمير العالم والتحكم في أسباب هذه القوة على نطاق واسع، فإن العالم ذاته يبدأ في الاقتراب أكثر من جرف الجحيم الدنيوي، ما يتطلب السعي الحثيث إلى إبعاد كافة أشكال الظلم والإجحاف والضغينة التي تحرّض على البغض والحرب والفتنة.
كان المفكر الراحل جون بودريارد هو أول من سارع إلى اعتبار ما حدث يوم 11 سبتمبر 2001، هو الحدث المطلق الذي فاق تصور من يديرون السياسة العالمية، خاصة السياسة الأمريكية، واعتبر أن الإرهاب صناعة أمريكية من حيث لا تدري أو ترفض أن ترى ذلك، لأنها تعتقد أن صورتها في العالم أكبر من أن تنال من مصداقيتها وهيبتها، وأن الإرهاب في هذا الزمن الفائق، كما يرى دائما بودريارد، يسكن روح أمريكا ولا يفارقها إطلاقا إلا بالتخلص من سياسة الظلم والإجحاف التي صارت غير مقبولة وتتنافى مع القوة الفائقة للولايات المتحدة الأمريكية. فما وقع يوم 11 سبتمبر هو محاولة أولى لانتحار ذاتي، وبداية تحرك لولب الدمار والخراب على ما نشهد من أثار وخيمة على العالم كلّه.
كاتب جزائري
مصر المحروسه . نت صوت العرب فى كل مكان .. موقع مصرى مستقل وشامل.. سياسى واقتصادى ورياضى واجتماعى وثقافى وفكرى
- Comments
- Facebook Comments