رغدة البهي تكتب حرب الصور ومسار الصراع الإعلامي بين واشنطن وموسكو عام 2018
استهداف المجال الإعلامي بشكلٍ متبادل يُشكل أداةً جديدةً للسيطرة، والنفوذ، وإدارة الصراع بين الدولتين،
قانون الوكلاء الأجانب
نظرًا لطبيعة الدور المحوري الذي تلعبه وسائل الإعلام الروسية في تعزيز صورة موسكو الدولية في أعقاب الحرب الروسية الجورجية (٢٠٠٨) وضم شبه جزيرة القرم (٢٠١٤) والحرب السورية، تُواجه تلك الوسائل -بطبيعة الحال- حربًا إعلامية أمريكية ممنهجة على خلفية اتهامها بالتدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وذلك من قبل: المؤسسات الرسمية، ومراكز الفكر والرأي، والصحف الأمريكية. حيث نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في ٢٤ نوفمبر ٢٠١٧، أنّ المواقع الإعلامية الإلكترونية الروسية -التي يزيد عددها عن 200 موقع- لعبت دورًا في الدعاية السياسية خلال فترة الانتخابات، وأنها استطاعت الحصول على خمسة عشر مليون مشاهدة على الأقل، إلا أن الدعاية الروسية -وفقًا للصحيفة- قدمت معلوماتٍ خاطئة تُضخم من حجم الأحداث، وقد تمت مشاهدتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أكثر من 213 مليون مرة. كما تتهم المخابرات الأمريكية وسائل الإعلام الروسية -وفي مقدمتها قناة “روسيا اليوم”- بالسعي للتدخل في الشئون الداخلية الأمريكية، بل والتأثير على الناخبين الأمريكيين، كونها ذراعًا ترويجيةً للكرملين. كما أشير أيضًا إلى وجود صلاتٍ بين القناة ومايكل فلين (مستشار الأمن القومي السابق للرئيس دونالد ترامب). وعلى خلفية ذلك، ناقش مجلس النواب الأمريكي تعديلاتٍ على قانون تسجيل الوكلاء الأجانب، والذي يستهدف بالأساس جماعات الضغط والمحامين ممن يُمثلون المصالح السياسية الأجنبية، بهدف تغيير آلية تطبيقه، كي يقضي بمنح وزارة العدل -التي يشكل مكتب التحقيقات الفيدرالي جزءًا منها- صلاحياتٍ إضافية في مقاضاة وكشف المنظمات التي تحاول التأثير في الولايات المتحدة بطرقٍ غير قانونية. وعلى إثر ذلك، طالبت واشنطن قناة “روسيا اليوم” التلفزيونية بتسجيل نفسها في سبتمبر الماضي تحت بند “وكيل أجنبي”، مما يُشكل ضغوطًا جديدة على مؤسسة إعلامية كبرى تعتبرها واشنطن ذراعًا لموسكو. وبالفعل، أعلنت القناة في نوفمبر من العام الجاري تسجيل نفسها كوكيل أجنبي في الولايات المتحدة، التزاما بمهلة حددتها وزارة العدل الأمريكية لها للقيام بذلك، إذ أوضحت “مارجريتا سيمونيان” (رئيسة تحرير قنوات “روسيا اليوم”) أن “الولايات المتحدة لم تكتفِ بطلب تسجيل القناة الروسية كوكالة أجنبية، مشيرة إلى تدابير تصعيدية تتضمن اعتقال موظفي القناة”. وقد أشار وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” إلى أن محطة البث الروسية لديها محاموها، وأنه يأمل أن يستخدموا قدراتهم لدرء هذا الأمر، وأعرب عن اعتقاده بأن الطلب من قناة “روسيا اليوم” بتسجيل نفسها كوكالة أجنبية ليس من قبيل الصدفة، مضيفًا أن هذا يعني أن القناة الروسية لها ثقلها المقابل لقناة “سي إن إن” الدعائية الأمريكية التي أظهرت تحيزها واستعدادها للتخلي عن المهنية لخدمة اعتباراتٍ سياسية، على حد قوله. كما قرر موقع التواصل الاجتماعي الشهير “تويتر” حظر إعلانات “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”، استنادًا إلى ما توصلت إليه الاستخبارات الأمريكية من نتائج تتصل بتدخل كل منهما -عبر ما تم بثه من إعلانات على الموقع- في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالنيابة عن الحكومة الروسية. واستمرارًا للتصعيد الأمريكي، يتوقع أن تشرف وزارة العدل على إعداد قائمة تستهدف وسائل إعلامية روسية أخرى، جنبًا إلى جنب مع القائمة التي تُشرف عليها الوزارة والتي تستهدف بالأساس المنظمات غير الحكومية.رد الفعل الروسي
ردًّا على الموقف الأمريكي من قناة “روسيا اليوم“، قامت روسيا بالمثل بتعديل قانون الإعلام الحالي كي يشترط تسجيل وسائل الإعلام الأجنبية كعملاء أجانب، وهو ما تم بالفعل إقراره من البرلمان الروسي بتصويت 154 عضوًا في مجلس الشيوخ، وامتناع عضو واحد فقط عن التصويت، وصادق عليه مجلس الشيوخ الروسي، الذي قدمه بدوره إلى الرئيس “فلاديمير بوتين”، الذي وافق عليه في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي. وتمنح التعديلات المقترحة على القانون الروسي المؤسسات الحكومية المختصة الحق في معاملة وسائل الإعلام التي تتلقى أموالًا من الخارج كعملاء أجانب، وبذلك تضطر لكشف مصادر تمويلها، وتخضع لتدقيقٍ مكثف يستهدف موظفيها، وتعامل معاملةً مماثلة للمنظمات غير الحكومية. وبذلك تستهدف السلطات الاتحادية وسائل الإعلام الأجنبية بالطريقة نفسها التي تعامل بها المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تتلقى تمويلًا من الخارج، سواء من الدول أو المنظمات والهيئات الدولية، والتي سبق وأن أغلقت بعضها أبوابها في موسكو نتاجًا لذلك القانون. وعلى خلفية ذلك، أعلنت وزارة العدل الروسية عن اتصالها بإذاعتي “صوت أمريكا” و”أوروبا الحرة” اللتين يُمولهما الكونجرس الأمريكي، لإبلاغهما باحتمال تسجيلهما بصفة “عميل أجنبي” في روسيا. وفي الخامس من ديسمبر الجاري أعلنت روسيا تصنيف 9 وسائل إعلام أمريكية “عملاء أجانب”، من بينها إذاعة “صوت أمريكا” و”راديو الحرية”، وبذلك تصبح ملزمة بالإعلان عن مصادر تمويلها. ويأتي هذا الإجراء كرد فعل ثأري على إصدار وزارة العدل الأمريكية أمرًا بتسجيل شبكة “روسيا اليوم” ووكالة أنباء “سبوتنيك” الروسيتين كعملاء أجانب، حيث أكد “غينادي زيوغانوف” زعيم الحزب الشيوعي في مجلس الدوما، تعقيبًا على إقرار القانون، أنه “تم إعلان حربٍ هجينةٍ علينا، ونحن مجبرون على الرد، محذرًا من استمرار دوامة النزاع، وعدم توقفها عند هذا الحد”، متوقعًا “مزيدًا من الشيطنة ليس فقط للإعلام الروسي، بل كذلك لروسيا، مشيرًا إلى بريطانيا بالتحديد بعد أن اتهمت “تيريزا ماي” روسيا باستخدام المعلومات كسلاح. وقد لاقت التعديلات الروسية على القانون انتقاداتٍ حادة من قبل برلين، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وإذاعتي “صوت أمريكا” و”راديو الحرية”، الممولتين من الكونجرس الأمريكي.دلالات الحرب الإعلامية
يتمثل جوهر التعديلات الأمريكية والروسية على القوانين المنظِّمة للإعلام في كلٍّ منهما في التدابير الانتقامية الانتقائية المسيسة ضد أي وسيلة إعلامية تنتقيها الدولتان، بشكلٍ يُقوض من قدراتها على العمل بشكلٍ مستقل في مناخ من حرية الصحافة والإعلام، ويُكمم أصوات الآخر، ويُدخل الدولتين في حلقاتٍ مفرغة من الفعل ورد الفعل المضاد، بشكلٍ تصعيدي سريع وموازٍ، لا يتوقف فحسب على الدولتين، وإنما يطال بتداعياته وسائل الإعلام الأجنبية بما في ذلك الألمانية والأوروبية من جانب، ويحد بصورة غير عادلة من حق المواطنين الأمريكيين والروس في الوصول إلى المعلومات والأفكار من جانب آخر. فبموجب التعديلات، ستخضع كافة المنافذ الإعلامية الأجنبية للقيود والالتزامات المفروضة حاليًّا على المنظمات غير الحكومية، كما ستواجه عواقب قانونية جرّاء خرق ذلك التشريع. وتعد الحرب الإعلامية مجالًا جديدًا للسجال الأمريكي الروسي على خلفية الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وبهذا المعنى، لن تكون هذه آخر حلقات المشهد، ومن المرجح أن يتواصل مسلسل التصعيد ليشمل مجالاتٍ أخرى بخلاف الساحة الإعلامية؛ فقد تجلّت تداعيات الانتخابات الأمريكية الرئاسية في المجال الدبلوماسي أولًا (متجليًا في طرد 35 دبلوماسيًّا روسيًّا من العاملين في السفارة في واشنطن والقنصلية في سان فرانسيسكو، وإعلان “بوتين” في المقابل أن على 755 دبلوماسيًّا أمريكيًّا مغادرة الأراضي الروسية). ثم انصرف الأمر إلى الشخصيات العامة (من خلال فرض عقوبات على أشخاص وكيانات يزعم تورطها في التجسس المعلوماتي، ونشاطاتٍ تخريبيةٍ في أوروبا، وأعمال فساد، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وأيضًا تسليم أسلحة إلى سوريا بما في ذلك وكالات الاستخبارات الروسية)، وامتد ليطال المجال الاقتصادي (متمثلًا في العقوبات الأمريكية على الاستثمارات في القطاع النفطي، والمجمع الصناعي العسكري، وإمدادات الغاز الطبيعي الروسي في السوق الأوروبية)، وأخيرًا المجال الإعلامي. إن وإن كانت الأداة الأبرز والأهم، ذلك أن جوهر تلك الأداة يتمثل في تغيير توجهات المواطنين السياسية والاجتماعية والفكرية التي تكون الرأي العام بالأخير. ومن ثم، تتجاوز تلك الأداة في تأثيراتها مستوى النظام السياسي، لتشمل: صورة الدولة، ومبرارات سياساتها الداخلية والخارجية، وتفضيلات الرأي العام، والحملات الدعائية، والتعاطف العالمي، وغيرها. ويتصل أحد أبرز الأسباب من وراء الحرب الإعلامية الحالية في رغبة كلتا الدولتين في تقويض الصورة الأحادية التي دأبت الأخرى على الترويج لها عبر منصاتها الإعلامية، من خلال الهيمنة على وسائل الإعلام، على نحو يحقق المصالح القومية لكل منهما. وختامًا، إن الحرب الإعلامية الراهنة لا تعدو كونها صدامًا بين مصالح الولايات المتحدة وروسيا. ولعل “الحرب” الراهنة وما يمكن أن تُسفر عنه من تطوراتٍ متوقعة خلال 2018 ستظل في الحدود التي تحول دون اندلاع مواجهةٍ ساخنة، وإن تكررت موجات الحرب، وتأججت تأثيراتها، وتعددت مجالاتها.