الفنان التشكيلى الكبير د. مصطفي الرزاز ينضم ل كتاب " مصر المحروسة .نت "ويكتب عن الأسطورة فى الفن الحديث
أدى التشدد الكهنوتي وما صاحبه من طابع السرية الثيوقراطية إلى ابتكار صيغ رمزية غامضة، تكاد تستعصي على الاستجلاء، تضمنت رموزا تصويرية لها دلالاتها الروحية والسحرية، ورموز وأرقام وحروف طقسية وظهرت عناصر خرافية من المسوخ والشياطين، ورموز تقييد القوة والطاقة.
* زواج الديني بالأسطوري: في بدايات عصر النهضة أصبحت الموضوعات والرموز الأسطورية مضفورة مع الموضوع الديني المقدس، واستمرار النزعة العلاماتية في ترجمة التصورات الرمزية بصورة توضيحية، كما في لوحة البشارة مع القديس ايميديوس للفنان “كارلو كريفيلي” عام 1486 التي تتضمن ضوءً رمزيا وزخرفيا، ينبثق من ثقب في السماء، ويخترق الكتلة المعمارية ليصوب على رأس السيدة العذراء، فضلا عن نزعة كولاجية تتمثل في توزيع العناصر البشرية في مسرح اللوحة، وفي الطابع المعماري، توزيع حكائي وصفي ورمزي، حيث تحمل السيدة المرافقة للملاك نموذج لمدينة صغيرة ترمز إلى القدس، فضلا عن رموز الطاووس والسجادة والتفاحة والتمرة. والملاك. تحت تأثير ازدهار حضارة العرب في الأندلس، لجأ الأوروبيين في بناء نهضتهم إلى التقدم العلمي والثقافي في الشئون الحياتية والفنون الحرفية، ولكنهم تجنبوا التعامل مع الفنون التصويرية العربية التي كانت علاماتية بامتياز. وإنما تطلع المصورين والنحاتين آنذاك إلى بعث النموذج الكلاسيكي الإغريقي الروماني، فعاودوا تقاليد حضارة الصورة دون العلامة كبديل نهضي، ومع هذا التحول عادت الرموز والموضوعات الأسطورية متداخلة مع المجازات التبشيرية الدينية. تزامن هذا التحول مع اكتشاف التلوين بالألوان الزيتية، والتي مكنت من صناعة الوهم البصري بالحقائق المرئيةُ لتصبح اللوحة كنافذة مُعجزة تطل على عوالم ذات قوة إقناع كبيرة. ومعها توصلوا إلى دراسات عميقة بالنسب والتشريح، وابتكروا طُرق الظل والنور التي تؤكد على هذا الواقع بينما تراجع استخدام الملامح الأيقونية كتذهيب الخلفيات والزخارف والكتابات الشارحة. * رموز البشارة والغواية: بالإضافة إلى الإشارة السابقة لعمل الفنان “كارلو كريفيلللي“- “البشارة مع القديس أميديوس”، فإن الفن الأوروبي قد شهد مبالغات لتفسير الأحكام والحدود الغامضة التي استنبطوها من بين النصوص المقدسة، ففتحت أمام الخيال مضمارا للتحليق والمبالغة لتصورات نعيم الجنة وجحيم النار، وشراك الخطيئة الجنة للصالحين وانزواء الزهاد، لتقوية الحجج الوعظية، فتولدت الصور المُخَلفة من خيال يتراوح بين الكوابيس المرعبة، والمسوخ الشوهاء وألوان التنكيل والتشفي في الخُطاه. كما في لوحة “هيرونيموس بوش” يمثل الهولندي “” حضور الخيميائية الجديدة في الفن الحديث * لغة العلامة محل لغة الصورة: اقتضي التحول الفني الأوروبي في القرون الوسطي على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، الخروج عن ثقافة الصورة التي تأسست في الفنون الكلاسيكية الإغريقية والرومانية، والتي كانت تعتمد على رسم المرئيات والشخوص بصورتها المثالية، والدخول في ثقافة العلامة البصرية، من ناحية كنزعة لتطهير الرواسب الإغريقية والرومانية- الوثنية- ومن ناحية أخرى للتعبير عن البعد الروحاني القدسي، واستلهام العبرة الدينية، والتعبير عن الموقع المتواضع للإنسان في الكون، والكنايات المجازية في تصوير معجزات الطبيعة المقرونة بسيرة السيد المسيح، فأصبح الفن القوطي فن علاماتي بامتياز يصور مثاليات عقلية اصطلاحية، حيث يصور الفنان ما يعرفه وليس ما يراه. تجمدت الفنون حينئذ ولقرون طويلة عند الموضوعات الدينية المختارة، تتكرر وتستنسخ مع تغييرات محددة تتعلق بالمساحة، وخامة التعبير التي تراوحت بين “الفرسكو والتمبرا والموزابيك”. وأصبحت خلفيات اللوحات مذهبة في الأغلب وعليها رموز وكتابات، بينما أصبحت الشخوص وبقية العناصر اصطلاحية ثنائية الأبعاد، أو موحية بالبروزات الضحلة. في هذه الفترة انتشرت العلوم المتداخلة بالعقيدة الدينية والرواسب الأسطورية “الخيمياء” ، التي تُؤوَل حقائقها وتفَسر وفق قوى غيبية، وعلاقات وأرقام وعناصر لها ارتباطات بعلوم الحضارات القديمة، وتصورات إيمائية وأخرى سحرية ترنو إلى تحويل الخسيس إلى نفيس والزائل إلى خالد. من خلال السعي إلى اكتشاف حجر الفلاسفة. * بين العلم والميتافيزيقا: في حين يستغرق العالم في بحوثه التجريبية واستنباطاته واستقراءاته المنطقية، فإن الفنان يُحلق في الخيال الأسطوري، ذلك أن حاجاته الداخلية أقوى من أن يشبعها في الحياة الواقعية، وقد رأى سيجوند فرويد، أن الرسوم تمثل خريطة مجريات التفاعل العقلي القلق، خاصة في حالة تفعيل اللاوعي المتدفق، حيث تتجلى الرموز البدائية والكوابيس الذاتية المدفونة في الأعماق.