هالة فهمي تكتب ل " مصر المحروسة .نت " : سوق الحمام !!
تراه قد خبر شعب مصر حقا .. من أطلق عليها ( بلد العجائب ) ؟!
اليِوم الجمعة السادس من أبريل في عام 2018 أقول بملء القلب؛ أن من قالها لابد أن يكون قد أحبها عشقها .. فهو أي القائل لا يعني أهرماتها ولا مناخها ولا روعة الصحراء الهاجعة في حضن نيلها ولا شموخ نخلها .. بل يعني شعبها .
هذا الشعب العبقري الخليط .. من حضارة الفراعنة وعدة حضارات تركت ألقها على روحه .. هذا الشعب الأسطوري الذي لابد أن تحبه بكل إيجابياته وسلبياته .. بكل جماله وقبحه .. ولكن أين هذا الشعب وكيف تتعرف عليه ؟!
لن تتعرف عليه في أي مكان غير الأحياء الشعبية بكل صخبها وهرجها ومرجها وليس هناك أروع من سوق الحمام !!
هو فرع من عدة أفرع تحت لواء أكبر سوق ليوم الجمعة ِفي مصر وقد تعارف عليه الناس من قديم الزمن بعدة مسميات ما بين ما يعرف بسوق التونسي أو الجمعة أو سوق اللصوص .. فيه تباع بضائع يعلم الجميع أن الكثير منها منتجات وأشياء مسروقة .. تباع فيه الكلاب والثعابين على مختلف أنواعها والعصافير والحمام والحيوانات الأليفة وجميع الماركات العالمية من ملابس وتليفونات محمولة وطوابع بكل ماركاتها .. كل ما تحلم به ستجده إما مستعملا أو مسروقا المهم أن تصل للسوق .
ولكي تصل عليك بالوصول لأشهر معالم شارع “صلاح سالم” وهى القلعة وتجعلها عن يمينك وتسير عدة أمتار حتى تصل لمسجد السيدة عائشة .. ستجد على يسارك كوبري “السيدة عائشة” .. تدور من تحته يسارا لتصل لأول شارع يمينك وهذا هو سوق الجمعة تجد فيه سوق الكلاب .. سوق الحمام وأكبر أسواق المحمول أو الشارع الذي يشبه سوق “عبد العزيز” للأدوات الكهربائية ..
وما يعنيني هو سوق الحمام والطيور والحيوانات الأليفة ذلك السوق الذي دخلت إليه من شارع “القرافة الكبرى” وقد سمي بهذا الأسم لأنهم كانوا يدفنون فيه الأمراء والسلاطين وفيه مقبرة (أل زهران) وهى مقبرة عائلة حماتي رحمة الله عليها والتي ذهبنا لزيارتها وهناك سألت نفسي هذا السؤال : من قال أن شعب مصر تبدل أو تغير أو أصبح مسخا ؟!
مازال هذا الشعب الدافئ الجميل الطيب المحب بلا سبب .. كيف ولماذا أقول ذلك سأخبركم .
بداية شاءت ظروفي بعد هذا التاريخ العبقري ( 30 يونيه) والذي شاركت فيه الشعب المصري نزولا إلى الشارع لإنهاء فترة حكم الإخوان بكل ما لها وما عليها لننقذ مصر من التقزم والأنهيار وشاهدت كيف التحمنا وأصبحنا كرجل واحد وامرأة واحدة وكأنه الكون يعيد دورته ولكننا لم نبدأ برجل وامرأة بل برجلين وامرأتين وأصبحنا كفريقين كل منا يحاول إثبات أنه الأصوب .. وبدأ الصراع ومازال الفريق الأول يؤيد جيش البلاد الذي يحمينا مهما كان الثمن .. والفريق الثاني يدافع عن شرعيته التي كادت تحولنا لدويلة تابعة لتركيا.. أييتجاهلون بقوة أن مصر أكبر وأهم من أحلامهم .. مصر شعبها الذي قيل فيه أنه خير أجناد الأرض لن يستسلم .
من هذه النقطة تابعت الصراع على شبكات إعلامنا الفاسد غير النزيه إلا من رحم ربي وشبكات التفسخ الإجتماعي الفيسبوك وغيرها فشعرت بالتمزق يسري في روحي وبدأت أشعر بحالة الكراهية التي أستوطنت روح من يسكنون هذه الشاشات المحمولة والمرئية حتى فضلت العزلة في بيتي وما بين الحديقة الصغيرة وزقزقة العصافير في شجيرات منزلي وبين مكتبتي وأحفادي اختبأت من صراعهم وكراهيتهم .. حتى جاء هذا اليوم الذي صدرت تاريخه عن عمد في بداية مقالي وقرر زوجي أن نذهب لمقبرة والدته ليتعرف طريقها أولادي ويعرفنا على التُربي لأي ظرف فكل من عليها فان .. وذهبنا ودخلنا مقبرة حماتي رحمة الله عليها والتي تغيرت معالمها كثيرا كتغير كل شيئ فكل مقبرة قرر مُلاكها وضع حجارة أبعد من مراسم حدودهم ليوسع لزائرين أمواته غير عابئ بالطرق ودخول وخروج السيارات لدفن الموتى أو من يزور.. وتحولت الحواري الضيقة لما يشبه شريط يحتاج لمهارات فائقة في فن القيادة مما دفع زوجي للخروج في طريق عودتنا من شارع “القرافة الكبرى” ليصل لميدان “السيدة عائشة” مرورا بسوق الحمام وهناك وجدت شعب مصر الذي فقدته لسنوات والذي أختصرته في شعب الفيسبوك وسقطت سقطة كل متعال على الحواري والأزقة وهناك أدركت ذكاء الأجانب والعرب من إخواننا الذين يزورون القاهرة ويحرصون على التجول في شوارعها وأزقتها وحواريها .. هم يبحثون عنا هناك عن الشعب المصري الحقيقي .. لذا يقعون في غرام مصر ويتحدثون حديث عشق فقط لمن يراها بعيون قلبه .. بينما نخاف ونقلق نحن جدا من تلك الزيارات .. الخوف يأتي من عدم رغبتنا في تصوير الشوارع القذرة أو الفقراء المعدمين بينما عيون أكثرهم لن تلتقط ما نخاف منه فقط بل ستلتقط معه ما عانقته عيني اليوم وكان السبب في عودة فتح الشُعب الهوائية في صدري لأستنشاق عبق رائحة الزمن الحقيقي والذي لم يتبدل كثيرا كما ظننت زمن المصري الجدع الأصيل الدافئ دفئ قطرة مطر في شتاء مشمس .
وجدت الشعب الذي أحبه في سوق الحمام في مساحة لم تتجاوز سنتيمترات من جانبي السيارة التي أركب .. كيف ؟!
في نهاية شارع القرافة الكبرى وعند أخر تقاطع توقفنا بفعل الأنانية والعصبية لراكبي السيارات من زائري القبور .. فعن يميننا سرب من السيارات منهم من يرغب في دخول الشارع حيث نقف وخلفنا سرب آخر .. وأمامنا سرب معطل .. فمنهم من وقف قائلا: لن أتحرك .. ومن تعصب راغبا في المرورمهما كانت النتائج .. الكل يتهم الآخر بالغباء والكل لا يرى نفسه على خطأ .. ولم تعد القضية قضية شخصدخل دون تفكير أو ترفض عنجهيته في التراجع بضع أمتار ليمرر الآخر!! لدرجة أنني ظننت أن الحل سيأتي في لحظة من سكان القبور الذين سيحلون أكفانهم صارخين : تركناها لكم فشاركتونا القبور ونقلتم إلينا عدوى صراخكم ثم يلملمون الأكفان وينظمون مرورنا لنعبر غير مأسوف علينا للشارع الكبير تاركين لهم تلك المقابر ساكنة كما كانت !!
ولكن لم تحدث تلك “الفانتازيا” ولم يخرج الموتى بل خرج المصري البسيط من غير راكبي السيارات وبدأو في تنظيم حركة السير.. مما تسبب في خروجنا من شارع “القرافة الكبرى” وهو لا يجب أن تسير فيه سيارات من وجهة نظري لأن نهايته سوق الحمام الذي تستحيل معه حركة سيارة بحجم لعبة طفل .. ولكن هنا تتجلى لك عبقرية شخصية المصري .. الناس تلامس ظهورها أو سيقانهم السيارة دون تأفف منها .. يقفون ويشيرون لك تفضل .. وتمر بطيئا حتى يخيل لك أنك ستمضي في مسافة الخمسة أمتار هذه عدة ساعات وربما اليوم .. فمن بين خوفك من دهس أقفاص الحمام والعصافير أو قلقك أن تدوس قدم أحد المارة ,, ورعبك أن ينفلت أحد الأطفال من يد والدته أو والده .. فيقع قلبك تحت العجلات وتسحقه ألف مرة .. تمر الثواني بين ابتسامة أو حتى تكشيرة لكنها متفهمة أن تلك المنطقة تحتمل السيارة والتكوتك والعجلة والموتوسيكل واحيانا نصف نقل .. ولابد أن يكون سائقها حاوي أو ساحر .. كل هذا وسط أناس ملتصقة ببعضهم أثناء المرور .. كان يجمعهم هم واحد ورغبة واحدة هى العبور والمرور من الزحام لحيث ما يرغبونه من هذا السوق الكبير .
مصر هذا السوق الكبير الذي نعيشه كل يوم نروح ونجيئ .. ننفعل ونصرخ .. ما بين ما سُرق وما سيُسرق .. وبين ما يباع وما يشترى .. يمر الإنسان المصري مدركا أن سيحتمل ويتحمل فمن يعبر الشارع بجواره مثله أخيه وأخته وأبنه وأبنته يخاف عليها .. يدفعها ضيقا ومللا ويقربها أو يقربه .. ولكن في النهاية شعبنا كيانا واحدا في السوق الواحد .. يختلف كل الأختلاف عن شعب الفيسبوك هذا الصندوق الذي حبسونا فيه حتى كدنا لا نرى بعضنا .. ولا نعرف من الألوان غير الأسود. خرجت من سوق الحمام متساءلة: أتراهم بهذا الهدوء والحنان الصاخب والتعاون عدوى من طبيعة هذا الطائر الرامز للسلام والذي أطلق أسمه على السوق ؟!
أم أنهم أدركوا نهاية الرحلة ونهاية السوق ممن يرقدون على بُعد خطوات منهم تحت أرجلهم لم يحملوا معهم أي من منتجات السوق الكبير ؟!!
ربما لكنني وجدت نفسي وروحي وشعب مصر الذي أحبه الكون كله .. وجدتنا في أحد أسواق بلد العجائب بشعبها وناسها وجدت مصرفي سوق الحمام .