لوتس عبد الكريم تكتب: من فات قديمه: بطرس غالي يرتجف خوفًا من عدم استعادة القدس!!
بطرس غالى رجل عظيم عرفته زمنا طويلا، وأذكر أنه قال لى يوما فى حوارنا معا: «الأساس الإنسانى فى رأيى مشتق من دراسة القانون وفلسفته أكثر مما هو مستمد من الروحانيات أو مرتبط بها؛ فالاهتمام بحقوق الإنسان والحريات الأساسية والليبرالية والديمقراطية مصدرها الدراسات الاقتصادية وفلسفة الفنون وفلسفة الاقتصاد، حيث إن الاقتصاد الحر مرتبط بالدفاع عن حقوق الإنسان، ولم يكن ارتياحى للنظم الشمولية مرتبطا بموقفى من النظرية الماركسية،
وأنا فى مواجهات شهيرة مع الجماعة الماركسية والناصرية، وقد اتضح صواب موقفى بعد انهيار النظام السوفييتى، والحمد لله أننى عشت هذه التجربة؛ لأنها بينت لى أننى كنت على حق، لأن الفلسفة التى كافحت من أجلها هى التى نجحت، وهى التى سوف تسود المجتمع الدولى إلى حد كبير»،
التقيت بالدكتور بطرس غالى فى الثمانينيات من القرن الماضى وقت أن كان وزيرا للدولة للشؤون الخارجية،
وكنا نلتقى فى المؤتمرات الدولية؛ نظرا لمركز زوجى الوزارى أو فى منزله حين يدعونا إلى السهرة والنقاش، كان بسيطا رغم عراقة منبته، متواضعا رغم ثقافته العميقة المتعددة، متفهما ومتفقها أدق المشكلات السياسية والدبلوماسية، وكان صاحب نكتة وفكاهة وحس مرهف وذكاء غير عادى.
وأحب أن أنتقل إلى كتاب فريد من نوعه ألفه الدكتور بطرس بطرس غالى، يمزج فيه بين الأحداث السياسية والذكريات الإنسانية، وهو «طريق مصر إلى القدس»، وقد صدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر فى يناير سنة 1997 ميلادية،
والكتاب مبنى مباشرة على تلك التسجيلات اليومية التى امتدت من يوم الثلاثاء 25 من أكتوبر 1977، وهو اليوم الذى اختير فيه وزيرا، وينتهى فى السادس من أكتوبر 1981 ميلادية يوم اغتيال الرئيس محمد أنور السادات.
ويضع الكتاب قارئه مباشرة فى قلب الأحداث الساخنة يوم الأربعاء 9 من نوفمبر 1977 ميلادية، حين أعلن السادات فى خطابه أمام مجلس الشعب المصرى أنه على استعداد للذهاب إلى آخر نقطة فى العالم سعيا وراء السلام العادل بل إنه على استعداد- حتى- للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلى، وتصور المصريون أن السادات يعبر بصورة خطابية عن استعداده لبذل أقصى جهد من أجل السلام، لكن السادات لم يكن يمزح، ولم يكن يغالى فى تعبيراته، فقد تفتق ذهنه عن الذهاب إلى عرين الأسد فى قلب إسرائيل.
وطُلب من الدكتور بطرس بطرس غالى يوم الجمعة أن ينضم إلى الوفد المرافق للرئيس فى زيارته إلى إسرائيل صباح السبت بوصفه وزير دولة للشؤون الخارجية وقائما بأعمال وزير الخارجية،
وهكذا وجد بطرس غالى نفسه فى سيارة تنقله من مطار القاهرة إلى القدس، وهو يجلس إلى جوار موشى ديان، وزير خارجية إسرائيل، وفى القدس حين رأى من نافذة حجرة فى الفندق الهائل الحجم الإنشاءات الإسرائيلية شعر بالخوف (ارتجف فى الليل إشفاقاً من ألا يتمكن العالم العربى أبدا من استعادة القدس).
وراح يتطلع طويلا إلى القدس وهو يشعر برهبة اللحظة والخوف من الخطوة الجريئة التى أقدم السادات عليها. لقد كانت هناك لحظة تصور فيها الوفد المصرى أن زيارة السادات إلى القدس سيكون لها مفعول السحر، وستؤدى إلى تسوية كل شىء،
لكن بطرس غالى يروى الحوادث الأولى التى انقشع معها هذا الوهم، وكيف أن المفاوضات بدأت فى غرفة الدكتور مصطفى خليل، رئيس وزراء مصر وقتذاك، فى الفندق، حيث جلس وايزمان وخليل وهو حول مائدة مستديرة فى وقت متأخر من الليل، وكيف أن الدكتور مصطفى خليل توجه فجأة إلى وايزمان بسؤال: «هل تملك إسرائيل قنابل ذرية؟»، ولم يجب وزير الدفاع الإسرائيلى، وإنما قام من مقعده، وفى يديه كوبه الفارغ ومشى ببطء إلى المائدة القريبة ليملأه بالويسكى، وبدأ يشرب، وبعد ذلك تحدث فى موضوع آخر، كما لو كان لم يسمع السؤال!
كانت استراتيجية السادات تتمثل فى استعادة سيناء؛ بهدف إحراز القوة التى تمكنه من استرداد بقية الأراضى العربية، ومع الزمن بات واضحا أن هذه الاستراتيجية لن تنجح، ويصف الدكتور غالى الأجواء التى أحاطت بمؤتمر كامب ديفيد بأنها غريبة،
كما يصف السادات بأنه لا يمكن التنبؤ بأفعاله، ذلك بينما كان أعضاء الوفد المصرى بصفتهم مندوبين كانوا مطالبين بتناول أجزاء من القضايا، لكنهم لم يكونوا قادرين على رؤية الصورة ككل.
وشعر محمد كامل، وزير الخارجية، بأنه فقد السيطرة على الوفد، وأصبح يشعر بالغضب وفى رأيه أن السادات لم يكن يدرك بالضبط ما يريد تحقيقه،أحيانا كان يتصلب فى مواقف، وأحيانا كان يلين فى مواقف أخرى دون سبب واضح، وأحيانا يبدو كأنه يريد التوصل إلى اتفاق مهما يكن الثمن، وأحيانا أخرى كان يبدو وكأنه يتمنى فشل المفاوضات حتى ينقلب الرأى العام ضد إسرائيل،
وتنكشف المخططات الإسرائيلية أمام المجتمع الدولى. وبدت كامب ديفيد مع مرور الأيام كمعسكر اعتقال فيما يخص الوفد المصرى، وضاعف من العبء عليه أن الرئيسين الأمريكى والإسرائيلى كانا يحيطان وفديهما علما بتطور الأمور قبل كل اجتماع وبعده، أما الوفد المصرى فلم يكن يتمتع بهذه الميزة.