ولاء فتحى تكتب: حضـن أبتعد.. حضـن لا يزال

0

تحت وطأة قفزاتنا المتهللة، انكسرت حدة الركود المعتادة للنهارات الصيفية اللزجة، ومعها انكسر إصرار أمى على بقاء ملابسنا الشتوية مطوية على الرف العلوى المغلق للدولاب،امتدت يدها إلى تلك «البؤجة» القديمة الملفوفة بعناية شديدة، وبحركاتها الخبيرة نكأتها فانفرطت الملابس الثقيلة الملونة تكسو أرضية الغرفة، واختلطت رائحة «النفتالين» الثقيلة بخطوط الأشعة المتسللة من النافذة.. فعبق الغروب بدفقات الحنين.

نجحت وأخى فى دفع التاريخ المحدد لإخراج الملابس الشتوية يومين كاملين عن الخامس والعشرين من شهر أكتوبر.

لجاجة طفولية فى مواجهة إصرار أمومى ضارب فى عمق اللاوعى الجمعى للأم المصرية التى دائما ما تعرف أكثر، عند تلك النقطة يلفظ الزمن أنفاسه الأخيرة، برودة رخوة أو حرارة عتيدة، تلك كانت عناصر مشهد لم يستطع التكرار أن يطفئ بهجته.

ما يدعو للتساؤل أن أحدا منا لم يفكر مطلقا أن يمد يديه، منفذا إرادته منفردا بعيدا عنها، فالقرار لها، ومهمتنا الضغط، أما أبى فكان ما عليه هو تنفيذ إرادة المنتصر الذى لم يكن نحن بطبيعة الحال.

رنين هاتف «مسروع» يقلب خريطة المشهد، تهرع أمى تتركنا وملابسنا تفترش الأرض، فجأة يخلو نهارا كامل من وجودها، لتعود ليلا بعينين حمراوين ووجه متورم ونظرات ساكنة غير مصدقة.

لا تكف عن العويل..

«ماتت فى عز شبابها»

«لم تفرح بعيالها»

«لم تكن مريضة»

«اولادها قطط مغمضة»

أحملق بأمى فتنتبه من شرودها، أشعر بشفقة ملتاعة على أولئك «القطط» ويجتاحنى رعب شديد، أهرع إلى أمى أطوق جسدها المنتفض بيدى الصغيرة كى لا يخلو منها النهار مرة أخرى.

…………………….

بيدين ثابتتين ووجه لا يلوى على شيء أمسك «بؤجة» الشتاء والصيف، بصعوبة، افتحها فتنسل منها ملابسنا ببطء، فتكتسى الأرضية بلونى الأسود والرمادى بلا بهجة، فى تمام الخامس والعشرين من أكتوبر

«ألم يكن من ممكن أن تظل الأيام تفيض بصخبها لو لم أحتضنها متشبثة بها فى تلك اللحظة المشئومة؟» أقول لنفسى.

…………………….

ليلة الحادى والثلاثين من شهر ديسمبر..

وقفنا سويا أمام نافذة بيتنا فى الطابق العاشر من إحدى بنايات وسط البلد، أرسلت عينى تنظر من بين ذراعيه ورائحة جسده تملأ كيانى

أبعدنى عنه مسافة الذراعين وذهب يصنع لى كوبا من الكاكاو الساخن الذى علمته كيفية تحضيره على طريقتى الخاصة فى كوب زجاجى لامع.

دفقة هواء ديسمبرية باردة لفحتنى بينما يسرى دفء الكاكاو الداكن جدا فى أوصالى

هرعت نحوه أريد أن أطوقه بيدى ذات الأظافر التى استطالت عبر سنوات عديدة من الوحدة، لكنهما تسمرتا قبيل ملامسته بسنتيمترات قليلة، وبدلا منهما تحركت شفتاى لتطبع قبلة باهتة على جبينه «كل عام وأنت بجانبى»

هكذا سوف لن اضطر لتحضير أكواب الكاكاو الداكنة لنفسى لاشربها وحيدة… ربما.

Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights