أحمد الخميسي يكتب الحــيــاد فــي الــثــقـــافــة والــفــن

0

يردد بعض الأدباء ، وليس من الشباب فحسب، أنهم يكتبون للمتعة الفنية، ولاستبطان النفس، أو كما يقول الروائي الأمريكي” ريك مودي”:” أظن أنني متى كتبت سأكون إنسانا أفضل”، أو أنهم يكتبون للاستمتاع بالحيل الفنية أو حسب تعبيرهم المفضل” إثارة الدهشة”، وفي نهاية الأمر ينغمس العمل الأدبي في استكشاف الذات والابحار فيها والدوران حول النفس. هم كما يقولون عادة يكتبون لأنفسهم. وتقطع تلك الشبكة من الأفكار الصلة بين الفن والمجتمع، وتنزلق بأصحاب المواهب إلي الحياد والوقوف خارج الصراع الاجتماعي. ويوقن كل مطلع على تاريخ الأدب المحلي والعالمي أنه ما من عمل أدبي عظيم إلا وارتبط بقضية عظيمة، يعلو بها إلي أفق إنساني يجتاز الزمان والمكان. ويبقى السؤال هل هناك حقا ثقافة أو أدب أو فن خارج الصراعات الاجتماعية والحروب؟ خارج هموم الاخرين؟ هل هناك ثقافة محايدة متحررة من أي موقف؟. تجيب عن ذلك السؤال الأديبة والمخرجة الانجليزية ” فرانسيس سوندرز” فتقول إن نغمة ” الثقافة الحرة ” و” المثقف الحر” كانت المعزوفة الرئيسية للديمقراطية الأميركية في مواجهة ” التزام الثقافة ” بهموم المجتمع، وتضيف أن أميركا قبل غيرها كانت تدرك تماما أنه ما من ” حياد ثقافي” خارج الصراعات، وقادها ذلك الإدراك إلي حد أن : ” وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت بمثابة وزارة الثقافة لأميركا ” على حد تعبير المؤلفة في كتابها ” الحرب الباردة الثقافية “. وتقول فرانسيس سوندرز إن أميركا كانت تطالب الجميع خلال الحرب الباردة بالانهماك في ” الصراع الأيديولوجي” الذي يستهدف – حسب تحديد الرئيس الأمريكي إيزنهاور- ” عقول وإرادات البشر”. بهذه الرؤية تولت المخابرات الأميركية شئون الثقافة داخل أميركا وخارجها فأصدرت المجلات وأنشأت المنظمات التي لا يخلو اسم واحدة منها من كلمة ” حرية ” ، وجندت لها كبار الكتاب والفنانين مثل ت . س . إليوت ، وأندريه مالرو ، ولورانس أوليفييه ، وجان كوكتو ، وإجنازيو سيلوني، وغيرهم. أما الذين رفضوا التعاون معها فكان نصيبهم المراقبة المستمرة والملاحقة على مدى أكثر من ربع القرن كما حدث مع أرنست همنجواي ، أو الموت جوعا كما حدث مع داشيل هاميلت بينما كانت أمنية ” توماس مان ” الحاصل على نوبل هي : ” مغادرة أميركا ذلك الكابوس المكيف الهواء”! ومن أجل ” توجيه المثقفين نحو رؤية أكثر توافقا مع المصالح والأسلوب الأمريكي : ” شرعت المخابرات في تأسيس وتمويل وتحريك ” جبهة ثقافية من أجل الغرب باسم حرية التعبير ” عام 1949 بعد إعلان الرئيس ترومان عن برنامج النقطة الرابعة، وأخذت تظهر مختلف الأقنعة الثقافية ” الحرة ” مثل ” منظمة الحرية الثقافية ” التي عطلت فوز بابلو نيرودا بجائزة نوبل عام 64 ، و ” الاتحاد الدولي للحرية الثقافية ” ، و” نادي القلم الدولي ” وغيرها ، كما أنشأت المخابرات فروعا لكل تلك المنظمات في معظم دول العالم، ومولت مجلاتها وكتبها وكتابها ومؤتمراتها وأمدت أعضاءها ببطاقات السفر ونفقات الفنادق ومصروف شخصي وغير ذلك. وتعميقا لنفس السياسة أضافت منظمة التجارة العالمية التي أنشئت عام 95 لبرنامجها بند” الحرية الثقافية”. وكان لابد للمخابرات المركزية الأميركية أن تتوارى عن الصورة تماما فلا تظهر خلال تلك الأنشطة، لهذا كان العثور على غطاء لتمويل تلك الجماعات الثقافية مهمة ملحة، وقد وجدته المخابرات في مؤسسات مثل فورد ( التي تمول جماعات حقوق الإنسان ) وروكفلر وغيرها ، كما وجدت أن أفضل وسيلة لمحاربة الشيوعية هي اليساريين المتحولين الذين تساقطوا وهم يعرضون خدماتهم على الدولة . وشيئا فشيئا تشكلت شبكة محكمة من البشر يعملون على التوازي مع وكالة المخابرات للترويج لفكرة الحياد الثقافي، وفصم الصلة بين الفن والمجتمع. في الوقت نفسه كان رجال المخابرات الأمريكية يصدرون تعليماتهم الصريحة بشأن عمل تلك المنظمات غير الحكومية : ” يجب على تلك المنظمات أن تحافظ على درجة من الاستقلالية ، فلا تطلبوا منها تأييد كل جانب من جوانب السياسة الأمريكية الرسمية “! وأخضعت المخابرات متحف الفن الحديث في نيويورك لتعليماتها ، وأجبرته على عرض كل الأعمال المتحررة من القواعد الفنية على أساس أن الوقوف مع أشكال ” التعبير التجريدي ” يعد رمزا للديمقراطية . وبدأت مؤسسة فورد في برنامج ” النشر المتبادل” ، وأغرقت بأموالها الفرق الموسيقية والفنانين والسينمائيين والكتاب ومعهد الفن المعاصر من أجل إشاعة النموذج الأميركي ثقافيا، وهدم الصلة القائمة بين كل فن عظيم ومجتمعه وهمومه. 

*****
جريدة الدستور المصرية – الاثنين 25 فبراير 2019 

Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights