جميل مطر يكتب: سباق الأفيال

0

لم أستبشر خيرا عندما خرج جون بولتون على العالم، وبشكل خاص على الخارجية الأمريكية، بما أطلق عليه استراتيجية أمريكية جديدة لإفريقيا. فى الواقع يجب أن أعترف أننى لا أحب هذا الرجل منذ أن كان يؤدى دورا ثانويا فى استراتيجية وضعتها جماعة ضمت عددا من أشرار المحافظين الجدد لتدمير العراق. وبالفعل دمروها.

اختفى بعض هؤلاء الأشرار عن ممارسة أنشطة علنية واستمر عدد قليل يقدم استشارات أغلبها ــ حسب علمى ــ أضر بمصالح دول فى الشرق الأوسط ويوجه جماعات الضغط الصهيونى فى الولايات المتحدة للحصول لإسرائيل على امتيازات أكثر وللدول العربية على صفقات فاسدة. لم يفاجئنى ظهور جون بولتون بعد غياب طويل بل كان الغريب أن يأتى ترامب إلى الحكم وبولتون خارج بطانته. أظن أن أحدا من الكبار الذين تولوا مناصب هامة فى البيت الأبيض ما كان ليقبل العمل وبولتون مستشارا للأمن القومى. وبالفعل خلت الساحة الآمنة.

***

استراتيجية بولتون الجديدة للتعامل مع إفريقيا ليست استراتيجية وليست جديدة. تعودنا أن يكثر صناع السياسة والإعلاميون استخدام كلمة استراتيجية دون أن يعنوها. وهى ليست حتى سياسة جديدة فمحتواها لا يتجاوز النية فى إعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة فى القارة السمراء ومن ناحية أخرى تحدى جهود الصين وروسيا نحو تطوير شراكات سياسية واقتصادية وأمنية عبر القارة. بمعنى آخر هى، وأقصد هذه الاستراتيجية، تلخص رد الفعل الأمريكى المتأخر جدا للنشاط المكثف من جانب روسيا والصين فى إفريقيا، ولكنها فى الحقيقة لا تقول شيئا جديدا.

***

دعونا لا ننخدع باللهجة المتعالية وبنبرة التعصب فى خطاب جون بولتون الذى قدم به استراتيجية أمريكا الجديدة. الخطاب فى مجمله والاستراتيجية فى محتواها تعبران عن حقيقة القوة الأمريكية فى حالتها الراهنة. تعبران أيضا عن عمق التناقضات التى تفجرها يوميا مواقف الرئيس دونالد ترامب وتغريداته حول الشئون الخارجية.

ترامب يضعف حلف الناتو أحد أهم أرصدة الولايات المتحدة كقوة أولى فى العالم، وفى الوقت نفسه يغضب حين يسمع إيمانويل ماكرون وهو يردد الدعوة الفرنسية التقليدية إلى إنشاء قوة دفاع أوروبية منفصلة عن القوة الأمريكية ولكن متعاونة معها. ترامب يقلص ميزانية المعونات الخارجية فى وقت يكلف فيه بولتون بوضع استراتيجية لمواجهة توسع النفوذ الصينى والروسى فى إفريقيا. لذلك لم يقدم بولتون فى خطابه وعودا للأفارقة بمعونات أو مشروعات بنية تحتية تتفوق على ما تقدمه الصين أو روسيا أو على الأقل تتعادل معها أو حتى تقترب. لم يكن سرا خافيا على واشنطن المجهود الروسى لإقامة شراكات مع دول إفريقية عديدة لاستخراج النفط وإنشاء محطات لتوليد الطاقة النووية. كان الاتفاق مع مصر نموذجا تعرضه روسيا على الإفريقيين ليحتذوه. هكذا صارت مصر وأنجولا وإثيوبيا دولا إفريقية رائدة فى سباق إقامة مشروعات طاقة نووية فى إفريقيا. هناك ست عشرة دولة إفريقية أخرى متعاقدة مع روسيا على مشروعات طاقة، أى على مشروعات عظيمة التكلفة وكثيفة الخبرة الأجنبية المطلوبة لإقامتها وتشغيلها وصيانتها. مصر، بالنسبة لروسيا، كانت فى زمن ولى المدخل الطبيعى للنفوذ الروسى فى إفريقيا. هى الآن بالنسبة لروسيا أحد المداخل كما صار السباق بين أكثر من اثنين فضلا عن أن موضوع السباق تغير فالسباق الآن على المادة الخام وثروات القارة وليس كما كان فى زمن الحرب الباردة على النفوذ والأيديولوجيا.

***

أما من جهة الصين فحجم الاستثمارات أضخم بكثير. اختلفت التقديرات. هناك تقدير بأن الحجم الراهن للاستثمارات الصينية المشغلة فعلا فى حدود 142 مليار دولار ووعود معلنة بنحو 167 مليارا للسنوات العشر القادمة. لاحظنا أن بولتون لم يعرض أرقاما لمعونات أمريكية ولا مشروعات إنمائية مدروسة وأظن أن أمريكا لن تكون فى وضع يسمح لها بأن تعلن عن أرقام من هذا النوع فى القريب العاجل. للصين مشروع فى تنزانيا لبناء ميناء كبير على شاطئ باجومويا، ولها فى جيبوتى إلى جانب قاعدتها العسكرية الأشهر فى حقل سباق الكبار، والصغار أيضا، أحلام بالحلول محل شركة موانئ دبى لتملك ميناء دوراليه، وهو المشروع الذى يسبب للبنتاجون قلقا على مصالح أمريكا فى منظومة أمن القرن الإفريقى. إن وقوع هذا الميناء ضمن نفوذ الصين يعنى أنه سوف يشكل تهديدا مباشرا لحرية النقل والعبور إلى قاعدتها العسكرية فى جيبوتى. لاحظ معى أن فى جيبوتى الآن قواعد وتسهيلات لفرنسا ودول عربية خليجية وهى فى انتظار عرض من روسيا لإقامة قاعدة عسكرية ومشروعات إنمائية. أضف إلى جيبوتى أنشطة مشابهة تقام أو سوف تقام فى الصومال وإريتريا وعمان واليمن لنتأكد من صدق القائل بأن القرن الإفريقى برميل بارود يهدد سلامة من فيه ومن حوله.

***

لم يقدم بولتون أو غيره من المسئولين الأمريكيين التزامات ووعودا ترقى إلى مستوى ما التزمت به الصين وروسيا ودول خليجية وتركيا والهند وإيران. اكتفى الرجل فى خطابه بمعهد التراث الأمريكى بالحديث عن أمرين، أولهما ترتيب أولويات المصالح الأمريكية فى إفريقيا، عبارة كانت على الدوام فى العرف الدبلوماسى غامضة وتخدم أغراضا متناقضة. الأمر الثانى، أنه فى غياب النية أو القدرة فى الارتفاع إلى مستوى ما تعرضه الدول الكبرى الأخرى لم يجد بدا من أن يشارك فى الحملة المنظمة التى سبقت الإعلان عن استراتيجية أمريكية جديدة والغرض منها تشويه صورة المشروعات والسياسات الإنمائية التى تعرضها الصين وروسيا على الأفارقة ومن بعدهم يأتى دور الآسيويين وشعوب فى أمريكا اللاتينية أو تطل على البحر المتوسط.

***

تركز الحملة الأمريكية المناهضة للتوسع الروسى على الربط بين جهود تدخل روسيا فى الشئون الأمريكية وجهود تدخلها فى الشئون الإفريقية، فالمسئول عن توسيع النفوذ الروسى فى إفريقيا هو الشخص نفسه الذى يتهمه المحقق روبرت موللر بالتدخل فى الشئون الأمريكية ويطلب استدعاءه للمثول أمام المحاكم الأمريكية. كذلك يتهم جون بولتون روسيا بأنها تسعى لزيادة نفوذها فى إفريقيا عن طريق تمرير صفقات اقتصادية فاسدة أخلاقيا. لم يفته أيضا أن يشير إلى أن روسيا تعتمد فى إفريقيا على حلفاء من زمن الحرب الباردة وبخاصة فى دول ما زال يقودها زعماء مناهضون للديموقراطية. تزودهم بالمرتزقة وبالسلاح أو تبيعه لهم بأسعار منخفضة. من هذه الدول، حسب بولتون، الكونغو والسودان وليبيا وإفريقيا الاستوائية.

أما الصين فقد كان لها نصيب الأسد فى حملة التشهير فهى تعقد مع الأفارقة، حسب حملة التشهير وجون بولتون نفسه، صفقات مبهمة تستخدم بواسطتها القروض لجعل الدول المقترضة رهائن لرغبات بكين وطلباتها. بولتون يتهم استثماراتها الخارجية بغزارة ثغرات الفساد فيها «فضلا عن عدم التزامها بمستويات أخلاقية وبيئية كتلك التى تلتزم بها أمريكا». هو أيضا أتى على ذكر دول إفريقية تعانى الآن من مشكلات تسببت فيها القروض الصينية، من هذه الدول زامبيا وجيبوتى وكينيا علما بأن هذه الأخيرة تعتمد على الصين فى أكثر من 70 بالمائة من مجمل دينها الخارجى ويقدر بخمسين مليار دولار.

فى آسيا الوضع أشد تعقيدا. جاء فى تقرير أعده «المركز من أجل التنمية العالمية» أن ثمانى دول مهددة بإعلان عجزها التام عن سداد قروضها الصينية، من هذه الدول أربع دول آسيوية ودولة إفريقية هى جيبوتى. أما الدول الآسيوية فهى باكستان والمالديف ولاوس ومنغوليا. من ناحية أخرى عرف أن السيد مهاتير الذى وصل إلى الحكم محمولا على حملة انتقادات للصفقات المعقودة مع الصين ومنها مشروع سكك حديد ومشاريع لمد الأنابيب، أوقف العمل فى عدد من هذه المشاريع. هذا التصرف نفسه سلكه السيد خان رئيس باكستان، هو أيضا استخدم حملته الانتخابية لانتقاد أساليب الصين فى تنفيذ مشاريعها المتعددة فى باكستان. وقد نشبت فى كراتشى مظاهرات احتجاج على تدخل الصين فى الشئون الداخلية. نعرف أيضا أن الرئيس الجديد فى المالديف غاضب من الديون التى خلفها الرئيس السابق تكلفة مشاريع نفذتها الصين منها مشاريع إسكان وبناء مستشفى بتكلفة مبالغ فيها ومدرج جديد فى المطار وجسر يربط بين جزيرتين.

***

كادت تنتهى المرحلة الأولى من تنفيذ مبادرة الطريق والحزام. هنا أتفق مع رأى يعتقد أن القيادة الصينية قد تنتهز هذه الفرصة لتعيد النظر فى المراحل التالية. أظن أن هناك فى الحزب الصينى من يرى أن القيادة ربما تعجلت وتوسعت أكثر مما يجب. لا شك أن المسئولين فى الحزب تسلموا معلومات كتلك التى تحصلنا عليه والتى تنبئ بغضب مسئولين أفارقة وآسيويين إزاء بعض التصرفات الصينية وبخاصة غموض العقود. نسمع أن هناك فى بكين من ينصح بالتريث وإعادة النظر حرصا على سمعة الصين كقوة عظمى فى دول العالم الثالث. فى نظر بعض قادة الصين كان يفترض يحتفى هذا العالم الثالث بالصين لا أن ينتقدها على هذا النحو أو ينساق وراء المنتقدين. لا شك عندى فى أن بولتون ومن على شاكلته فى الإعلام الأمريكى لعبوا دورا مهما فى تشويه سمعة الصين، ولكن أظل مثل كثيرين، ويزداد عددهم، نعتقد أن الصين ارتكبت أخطاء جسيمة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والمثال البارز فى شعبية الرئيس البرازيلى الجديد الكاره للنفوذ الصينى.

للمشكلة وجه آخر. العالم الثالث، وبخاصة آسيا، فى حاجة ماسة إلى تجديد بنيته التحتية وهو لا يملك الأرصدة المالية اللازمة. الأرصدة اللازمة لا تتوافر حقيقة وبالقدر المعقول إلا فى الصين. وبالتالى لا أمل يرجى فى مرحلة مثمرة فى أنشطة التنمية العالمية وبخاصة فى العالم النامى إلا بأن تنتبه القيادة الصينية إلى ضرورة تحسين أداء مبادرة الحزام والطريق من خلال التركيز على عدة أمور أراها ضرورية، هذه الأمور هى أولا: إعلان النية والاستعداد لإعادة التفاوض حول الشروط الواردة فى عدد كيبر من الصفقات واتفاقات القروض. ثانيا: تأكيد التزام الجودة فى تنفيذ إنشاءات البنية التحتية. ثالثا: بذل جهد أكبر لإشراك دول أخرى كاليابان والاتحاد الأوروبى ودول النفط فى العمليات الكبرى. رابعا: التزام الحذر الشديد بالنسبة للمشاريع ذات الصفة أو الأهداف السياسية. نعرف جيدا والصين تعرف أن مساوئ الاستعمار الغربى مازالت حية فى ذاكرة شعوب آسيا وإفريقيا. نعرف أيضا، وتعرفه القيادة الصينية أن معظم شعوب العالم النامى تغلى بالغضب لأسباب عديدة، وإنها لن تتحمل أن تتحول بلادها إلى ساحات لسباقات أفيال تعيث إفسادا وتدميرا وصالات رهان وارتهان يجول فيها ويصول مغامرون من نوع جون بولتون وستيف بانون ومرتزقة يتحكمون وينهبون .

الاقتباس

لا شك عندى فى أن بولتون ومن على شاكلته فى الإعلام الأمريكى لعبوا دورا مهما فى تشويه سمعة الصين، ولكن أظل مثل كثيرين، ويزداد عددهم، نعتقد أن الصين ارتكبت أخطاء جسيمة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والمثال البارز فى شعبية الرئيس البرازيلى الجديد الكاره للنفوذ الصينى.

Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights