فتحي خطاب يكتب: ثورة الرجل الكبير

0
الماضي نفسه مفتوح رغم مرور الحقب والسنوات..وما حدث في ذلك المساء المتأخر من يوم «الثلاثاء» 22 يوليو/تموز 1952 كان خارج التوقعات، حين تحركت مجموعة من شباب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، وهم يدركون حجم المخاطر المحيطة بهم، وحجم وسطوة الأطراف المؤثرة في ذلك الوقت، واللاعبة الأساسية فيه، من القصر وأجهزته الأمنية، ومن السلطة الغالبة للاحتلال البريطاني وحشوده العسكرية، ومن الفعل النافذ لحركة وتحركات السفارتين البريطانية أولا ثم الأمريكية، إلى جانب المصالح المتشابكة والمتوحشة بين السلطة وبين الطبقة النافذة والحاكمة بما تملك من إقطاعيات ورؤوس أموال وما لها من سطوة ونفوذ في البلاد .. وكانت هناك أهداف محددة تفتح كل الأبواب والنوافذ للمستقبل الذي تستحقه مصر، بعد سنوات عجاف تراجعت فيها طويلا وكثيرا إلى الهامش، تراقب مستقبلها في حسرة ، وتنعى حاضرها بأسى، تحت سطوة الاحتلال، وقسوة الفقر والجهل والمرض، ومعاناة شعب كانت غالبيته في الأقاليم والقرى والنجوع من «الحفاة». وتحقق الحدث الأكبر في تاريخ مصر ـ صباح يوم 23 يوليو/ تموز 1952 ـ وهو من أحداث المهام الكبيرة، يبشر بعهد جديد، وحقبة زمنية جديدة، ومع الحركة التاريخية التي قادها جمال عبد الناصر، وأثرت في منطقة تجاوزت حدود الدوائر الثلاث، العربية والأفريقية والإسلامية، وحيث لم تجلجل رسالة الثورة في فضاء مصر والعالم العربي فحسب ،لكن أصداءها ترددت بقوة في أرجاء الكون بأسره، وتسلمها ورعاها كل معنى بشأن الإستقلال والتحرر . إن ما يميّز ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 عن الحركات الثورية الأخرى والحركات الانقلابية التي عمّت بعض الدول العربية في ذلك الوقت، أنها قامت على أسس قومية أولاً تنتمي إلى محيطها العربي وأسس وطنية لمعالجة وضع مصر الداخلي، وكانت شرارة الإصرار على انطلاقتها كثورة قومية وطنية، الأحداث التي اجتاحت فلسطين في العام 1948 وتخاذل جيوش الأنظمة العربية، والأسلحة الفاسدة، وواقعة حصار «الفالوجة» التي شهدها الضابط جمال عبد الناصر قريباً من الأحداث، وغيرها من عوامل وأسباب الهزيمة، وبالتالي نكبة فلسطين..وتضافرت جهود الضباط الأحرار في الجيش المصري، وانطلقت الثورة تعلن قوميتها الجمعية. كانت مصر والأمة العربية، على موعد مع التاريخ في ذلك اليوم من صيف العام 1952 : كانت مصر على موعد مع القدر، وهي تعاني ظلما وقهرا، وسوء توزيع لثروات الوطن، وغياب للعدالة الاجتماعية، وقد بلغت نسبة الفقر والأمية 90% من أبناء الشعب المصرى، ومعدلات المرض حققت أرقامــا قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التى تنتج عن سوء التغذية، وكانت نسبة المعدمين من سكان الريف 80% من جملة السكان عام 1952 ، وغالبية الشعب المصري من الحفاة وخاصة في الأرياف والأقاليم، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% من تعداد الشعب، فى الوقت الذى كان يعمل فيه الغالبية فى وظائف دنيا ــ سُعاة وفراشين ــ وكانت آخـر ميزانية للدولة عام 1952 تظهــر عجزًا قــدره 39 مليون جنيه، فى حين كانت مخصصات الاستثمار فى المشروعات الجديدة طبقـًـا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا، فقد كان الاقتصاد المصرى متخلفــا وتابعا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير!! وكانت الأمة العربية، ومن الساحل إلى الساحل، من شواطىء البحار وحتى حواف الرمال، في حالة أسوأ من الغياب، ثم كان موعد الأمة مع القدر، وحين تجسد في صورة شاب ـ 34 سنة ـ يقود ثورة الضباط الأحرار، ويصبح رئيسا لمصر، لتبدأ رياح التغيير تهب على العالم العربي، ولم يعد منطقة يمكن أن يتخذ بشأنها القرارات في خارجها، كما كان، وحتى لو حدث كان «ناصر» يحبط كل محاولة في مهدها، ويقلب الطاولة على المشاركين ومن بينهم أطراف عربية، كان هواها غربيا !! وهكذا أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم. وإذا كانت القاعدة الإنسانية «الذهبية» تؤكد أن التاريخ له عقل..فإن مصر لم تكن واحة هادئة مستقرة قبل الثورة، بل كانت تغلي، وكانت الوزارات تسقط خلال شهر، ثم جاء عبد الناصر وأدرك أن الصراع الطبقي سوف يلطّخ التراب الوطني بالدم ويؤدي لحرب أهلية، وسوف يؤدي تنافس القطبين الكبيرين إلى تدويل هذه الحرب مثلما حدث في إسبانيا، وهكذا قرّر أن يقوم بتحوّل اجتماعي بلا عنف ولا دماء، وعن طريق « تأميم الصراع الطبقي»، وأن تسترد الدولة كل المصالح التي نهبها الأجانب، مثل قناة السويس والمصارف وشركات التأمين. التاريخ له عقل..ويسجل للثورة، أنها جاءت بأول رئيس مصري «منتخب» يحكم مصر منذ الفين عام..أنهى الاحتلال البريطانى.. أنشأ الجمهورية..استرد الأرض من 300 أسرة أصولها غير مصرية كان محمد على باشا اقتطعها من المصريين وسلمها للمحظيين لذا جاء لفظ اقطاعى..واستصلح اثنين مليون فدان..وأنشا السد العالى فحمى مصر من الفيضان والحفاف وولّد الكهرباء وصارت الدولة الوحيدة فى العالم التى تزرع أربعة محاصيل سنويا..أقام ثلاثة ألاف مصنع..أنشأ ألف وحدة صحية وكان المصريون قبلة يموتون بـ«البلاجرا» لعدم أكل خبز القمح..وقبل الثورة كان أشهر مشروع بمصر، هو «مشروع القرش» لمكافحة حفاء المصريين وشراء احذية!! كانت تلك أبرز ملامح الصورة لمصر والأمة العربية، حين تولي الشاب جمال عبد الناصر ـ 34 سنة ـ مسؤولية إنقاذ الوطن بثورة بيضاء..وهي إشارات تاريخية، ترجمها فيما بعد أديب فرنسا الكبير، أندريه مالرو، بالقول «إن عبد الناصر كان تجسيدا لأمته في مرحلة تحول هام، وكان وسوف يبقى لسنوات لا نستطيع من الآن أن نرى مداها، تجسيدا في الحياة لمصر والأمة العربية» . وتلك هوامش طافت بخاطري، في ذكرى ثورة الرجل الكبير 23 يوليو 1952    
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights