حسام إبراهيم يكتب : موسوعة ومهرجان وعرس سينمائي

0
  اذ رفع الستارعن فعاليات الدورة ال71 لمهرجان كان السينمائي الذي يوصف “بالعرس السينمائي العالمي” تبدو الحاجة ماسة لاسهامات ثقافية مصرية وعربية لبناء جسور بين “الفن السابع في مصر والعالم العربي ككل وبين المشهد السينمائي العالمي بمتغيراته وموجاته وتطوراته السريعة”. واذا كانت الترجمة تشكل احد اهم هذه الجسور الثقافية بين السينما المصرية والعربية وبين المشهد السينمائي العالمي ففي توقيت مناسب تماما تقدم مثقفة مصرية عملا موسوعيا مترجما للعربية عن الإنجليزية ويشكل بحق “جسرا ثقافيا” للتفاعل مع جديد الأفكار والرؤى في السينما الغربية سواء في بريطانيا وفرنسا او في الولايات المتحدة ومركزها السينمائي الشهير “هوليوود”. وهذه الموسوعة التي صدرت عن المركز القومي للترجمة بعنوان :”دراسات سينمائية-المفاهيم الرئيسية” وتقع في 875 صفحة يمكن وصفها بأنها “سفر ثقافي للسينما المعاصرة” فيما عمدت المؤلفة سوزان هيوارد لاستخدام أدوات ومناهج ثقافية متعددة في علوم الفلسفة والسياسة والنفس والاجتماع والفيزياء وبما يعبر عن حقيقة التشابك والتداخل والتفاعل بين مختلف الحقول المعرفية في عالمنا المعاصر. وقامت المؤلفة سوزان هيوارد وهي أستاذة الدراسات السينمائية بجامعة اكسيتر البريطانية  بتقسيم موسوعتها تقسيما ابجديا حسب الأبجدية الإنجليزية لتتناول كل مايتعلق بالسينما المعاصرة والمصطلحات النظرية الرئيسية في عالم الفن السابع مع اضاءات تاريخية لتطور المفاهيم والمصطلحات واصولها الثقافية وسياقاتها المعرفية مع اهتمام واضح بالتحليل النفسي الفرويدي. وهكذا يمكن للقاريء ان يبحر بمتعة  مع مفاهيم ومصطلحات سينمائية مثل :”الأكشن والاقتباس والمعنى المزدوج والعدسة الأنامورفية وزووم والرسوم المتحركة وتصميم المناظر واختلال التزامن والتوليف المتقاطع والتركيب المتقاطع وافلام الرعب والكوميديا والفانتازيا وسينما الحقيقة والطليعة وسينما النساء والتناص ودراما الأزياء التاريخية وسينما هوليوود الكلاسيكية وسينما المقاومة وسينما أصحاب البشرة السوداء وسينما المؤلفين وسينما المخرجين وسينما العالم الثالث وافلام الحرب”. ولاريب ان هذا العمل الثقافي الكبير الذي يفيد دارسي السينما والقاريء غير المتخصص على حد سواء يعيد للأذهان أهمية دور المركز القومي للترجمة ككيان ثقافي مصري يضخ جديد الأفكار لمختلف الثقافات في شرايين الثقافة المصرية والعربية ويقدم مختلف الاتجاهات والمذاهب الفكرية للقاريء العربي وتجلياتها واطيافها المتعددة في مختلف المجالات ومن بينها الفن السابع او عالم السينما. وتأتي هذه الموسوعة السينمائية لسوزان هيوارد وهي مثقفة واكاديمية بريطانية متخصصة في السينما الفرنسية  في وقت تتجه فيه انظار عشاق الفن السابع الى مدينة كان الواقعة جنوب فرنسا حيث  تستمر فعاليات الدورة ال71 لمهرجان كان السينمائي الدولي حتى يوم التاسع عشر من شهر مايو الجاري. وإذ يعد مهرجان كان احد اهم المهرجانات السينمائية في العالم ان لم يكن اكثرها أهمية كما يذهب العديد من النقاد فان مثل هذا الحدث السينمائي الكبير يصنع دوما مصلحات ومفاهيم جديدة في عالم الفن السابع بينما يأتي فيلم الافتتاح هذا العام للمخرج إلايراني اصغر فرهادي بما يعيد للأذهان رؤى سينمائية لمبدعين من عالم الجنوب والشرق الأوسط افسحت لهم سوزان هيوارد حيزا في موسوعتها السينمائية التي تضمنت إشارات دالة للسينما الإيرانية. وضمن الأفلام التي تعرض في الدورة الحالية لمهرجان كان السينمائي تشارك المخرجة الإيرانية جولشيفتا فاراحاني بفيلم “بنات الشمس” ويشكل فيلم الافتتاح “كلهم يعرفون” للمخرج الإيراني اصغر فرهادي وبطولة النجمين خافيير بارديم وبنيلوبي كروز فرصة لاطلالة على الأفكار الجديدة والرؤى المبتكرة لفرهادي كما  يترقب عشاق الفن السابع أفلاما مثل “سكين في القلب” للمخرج الفرنسي يان جونزاليس والنجمتين ايزابيل ادجاني وفانيسا بارادي . وتتولى الممثلة الاسترالية كيت بلانشيت رئاسة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي هذا العام فيما تضم اللجنة الممثلة الفرنسية ليا سيدو والنجمة الأمريكية كريتسين ستيوارت ويستدعي المهرجان أسماء اسطورية في عالم الشاشة الكبيرة كجون ترافولتا في فئة المحاضرين ليعود لبؤرة الأضواء بعد غياب وبما يعيد للأذهان مقولة لسوزان هيوارد مؤلفة موسوعة “دراسات سينمائية-المفاهيم الرئيسية” من ان السينما تصنع من الغياب حضورا. ولئن جاء هذا السفر الثقافي في الفن السابع عبر جهد لغوي ومعرفي بترجمة الدكتورة نهاد إبراهيم فقد سبق لها منذ نحو عامين ان أصدرت موسوعة من تأليفها بعنوان :”موسوعة النقد السينمائي-تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة” وهي موسوعة جاءت في ستة أجزاء..كما ان هذا السفر الثقافي السينمائي هو ثالث كتاب مترجم للناقدة المصرية نهاد إبراهيم بعد كتاب :”المخرجون-كلاكيت اول مرة” الذي صدر عام 2010 وكتاب “تحت مقص الرقيب” الصادر عام 2014 فيما يصل مجموع اصدارتها ل30 كتابا مابين النقد السينمائي والمسرحي والأدبي وشعر العامية والقصة القصيرة والسيناريو. والدكتورة نهاد ابراهيم مترجمة هذا العمل الموسوعي الكبير الذي يحق وصفه بأنه يدخل في نطاق “الصناعة الثقافية الثقيلة” هي ناقدة سينمائية ومسرحية كما انها شاعرة وقاصة ومترجمة فيما حصلت على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي من المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون عام 2006عن اطروحة بعنوان “اسطورة فاوست بين مارلو وجوته والحكيم وباكثير وفتحي رضوان”. ولئن اعتبر عشاق الفن السابع حول العالم مهرجان كان “عيدا للسينما” فان مصر تعود للتنافس في مسابقة هذا المهرجان بعد غياب طال بفيلم “يوم الدين” للمخرج المصري  أبو بكر شوقي وهو اول أفلام هذا الفنان الشاب الذي درس السينما في نيويورك..وفيما تضمنت الموسوعة السينمائية التي نهضت الدكتورة نهاد إبراهيم بمهمة ترجمتها للعربية حيزا “لسينما الشرق الأوسط” فان فنانا مصريا مثل الراحل العظيم  عمر الشريف بحاجة لكتب على مستوى رفيع  على غرار مايحدث مع كبار الفنانين في الغرب ككلينت ايستوود المخرج الهوليوودي و بطل الفيلم الشهير “من اجل حفنة دولارات” والذي اختار مارك ايليوت  عنوانا دالا لكتابه عن سيرته الذاتية وهو :”المتمرد الأمريكى”. وهاهي الفنانة البوروندية خادجة دين تشارك ضمن لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي بينما مصر تشارك لأول مرة في اكبر مهرجان سينمائي بهذه الدولة الافريقية وهو مهرجان السينما والفنون السمعية البصرية الذي يختتم يوم الحادي عشر من شهر مايو الجاري ..وضمن 69 فيلما تعرض في هذا المهرجان تشارك مصر بفيلمي “اخضر يابس” للمخرج محمد حماد و”شد أجزاء”  للمخرج حسين المنباوي بينما يعبر المهرجان في دورته الحالية وهي الدورة العاشرة عن حقيقة الاهتمام الافريقي اللافت منذ سنوات بالفن السابع. و هناك دول افريقية كنيجيريا قطعت خطوات كبيرة في مسيرة الانتاج السينمائي حتى ان هناك من يطلق على استديوهات السينما النيجيرية الاسم الدال والموحي “نوليوود” على غرار هوليوود حاضرة السينما الأمريكية او “بولييود” التي تشير لصناعة السينما الهندية العملاقة..وحسب تقارير منشورة فان نيجيريا تنتج نحو 100 فيلم كل عام وتحقق ايرادات سنوية من صناعتها السينمائية تصل لنحو 540 مليون دولار امريكي فيما يتجاوز مجموع استثمارتها في هذه الصناعة ال3 مليارات من الدولارات الأمريكية..وكما يوضح تقرير اعده الاتحاد الافريقي للسينمائيين عن واقع السينما بالقارة الافريقية فان هناك توجها حميدا للربط بين الفن السابع وخطط التنمية وتطوير اوجه الحياة في ربوع القارة وزيادة مداخيل دولها من الصناعات الثقافية الابداعية وفي طليعتها السينما. ومن ثم فان  السينما المصرية التي يعيد مثقفون مثل الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة للأذهان انها كانتفي اواخر الأربعينيات بالقرن الماضي تنتج 90 فيلما في السنة بحاجة لصحوة تعيد امجادها فيما كانت صادرات مصر منها تحتل المرتبة الثانية بعد القطن “ووصلت افلامنا الى دول افريقيا والهند بجانب سوق واسعة في الدول العربية التي عاشت سنوات طويلة على الفن المصري والفيلم المصري”..وواقع الحال ان السينما المصرية- كما تقول ذاكرتها الموثقة-حققت منذ ثلاثينيات القرن العشرين مكانة فنية وثقافية بارزة لمصر في محيطها العربي والاقليمي والقاري بل ان الفيلم المصري كان موضع ترحيب في دور العرض السينمائي بدول مثل فرنسا واليونان وايطاليا وبريطانيا والنمسا والمانيا وسويسرا وحتى البرازيل. والنظرة الثقافية التاريخية للسينما المصرية تكشف عن اهتمام اصيل بالجوانب المهنية والتقنية في سياق العمل الاحترافي مع تفوق على مستوى الشكل والصورة كما يتجلى اسلوب شيخ المخرجين المصريين محمد كريم وهو اول من اشتغل بالاخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة “بالمنظر ولوازمه ومحتوياته ” وكان يقدم الطبيعة في اجمل صورها وهو مايتجلى في افلام مثل “زينب” و”الوردة البيضاء” ةدارت اغلب افلامه حول مواضيع عاطفية وغنائية..والسينما المصرية كان لها فضل السبق في ادخال “الواقعية” في الفن السابع بالمنطقة كلها بابداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم “العزيمة” ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الرومانسية المغرقة لشيخ المخرجين المصريين محمد كريم. اما كمال سليم بواقعيته فعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقيم “شخصيات مصرية نعرفها تماما  لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية” وفي عام 1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه “قاموس الأفلام” فيلم العزيمة لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما..بل ان  سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 “يفوق الأفلام الفرنسية والايطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها” فيما جاء صلاح ابو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر افلامه مثل “الأسطى حسن” وريا وسكينة” و”الفتوة” عن اللحظة التاريخية المصرية. وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في “القاهرة 30″ و”بين السماء والأرض” و”بداية ونهاية” و”القضية 68″ وكان هذا الفيلم الذي دشن ماعرف “بالواقعية النقدية” وهناك ايضا  كمال الشيخ  صاحب اسلوب الاثارة والتشويق فيما لاحاجة للافاضة في انجازات يوسف شاهين للفن السابع المصري والعالمي وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من ادواته في افلام المغامرات والصراعات وتميز افلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح الضحك والمرح و”استاذية” حسن الامام في افلام الميلودراما..وسيبقى اسم المخرج توفيق صالح طويلا في ذاكرة السينما فيما عرف بأسلوب الواقعية الجديدة المتأثر بالمدرسة الايطالية مع ابداع مصري خالص واصيل كما تبدى في “صراع الأبطال” و”درب المهابيل” واستحق هذا المخرج الذي قضي مؤخرا اعجاب وتقدير كل عشاق السينما لابداعاته الرفيعة المستوى والتي دخلت على الرغم من قلة عددها في قائمة افضل 100 فيلم مصري. وهكذا فمن المثير للاعجاب ان يهتم مثقفون مصريون مثل الدكتورة نهاد إبراهيم بقضايا تتصل بدعم مقومات السينما المصرية بترجمة الجديد في عالم السينما كموسوعة “دراسات سينمائية-المفاهيم الرئيسية” فضلا عن “تلك النظرة الكلية الشاملة والمحيطة بعديد المعطيات والعوامل والمتغيرات” وذلك المنهج الذي اعتمدته في موسوعتها السينمائية المتعددة الأجزاء والذي انطلق من منظور علمي تحليلي وموضوعي للكثير والكثير من الأفلام المصرية والأجنبية وان تسعى المؤلفة في الوقت ذاته “لمنح القاريء مفاتيح الفرجة وصولا للمتعة في عالم الفن السابع”. وتؤكد الدكتورة نهاد ابراهيم على ان الفن يدافع عن القضايا النبيلة للمصريين وحضارتهم الانسانية الممتدة عبر ألاف السنين فيما تطالب بالتصدي الواعي “للممارسات واللغة البذيئة المنسوبة ظلما للفن والابداع” بقدر ماتستنكر “تسليع المرأة وتحويلها لمجرد جسد بعيدا عن جوهرها الانساني ودورها الحقيقي في المجتمع” فضلا عن “تغييب الوعي او تزييفه بسبل الفن الهابط والخطاب الفكري المسموم الذي قد يكون اشد خطرا وفتكا من المخدرات”. ولعل من المفيد في هذا السياق  استعادة ماقاله المؤرخ الأمريكي هوارد زن في كتابه “قصص لاتحكيها هوليوود ابدا” ان  مهمة المبدع سواء كان يكتب او يخرج او ينتج او يمثل في افلام او يعزف موسيقى ليست فحسب الهام الناس وتقديم السعادة لهم وانما تعليم الجيل الصاعد اهمية تغيير العالم..واذا كان المخرج الايطالي “انطونيني” هو صاحب مقولة ان “اكثر مايثير انتبهي في هذا العالم هو الانسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة” فان  للسينما المصرية اليوم ان تركز على هذا الانسان وان  تتطور اكثر خاصة وان الجماهير المصرية والعربية تؤازرها . هاهي مثقفة مصرية تستجيب لتحديات المشهد العالمي بجهد ثقافي كبير سواء على مستوى التأليف او الترجمة ..انها استجابة واعية من جانب مثقفة وطنية لتحديات تواجه السينما في بلادها وادراك لأهمية  الدور الكبير للفن السابع  في التشكيل الايجابي للانسان المصري وتعظيم القوى الناعمة لمصر الخالدة..ولعل مثل هذه  الاسهامات الثقافية العميقة هي البشارة بسينما مصرية لغد افضل واطياف خلابة تداعب صفحة النيل وهامات النخيل !.
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights