د. أيمن تعيلب يكتب عن الشيخ سيد عبد الرحيم و فصول من سيرتى الذاتية

0
كان جامع العيسوية هو أول مسجد وضع للناس بالكفر القديم،بناه خال أمى الحاج أحمد أبوصقر،وكان رجلا تقيا ورعا مشهورا بالصلاح بين الناس والعطف على الأيتام والمساكين.كانت جدتى لأمى الحاجة محبوبة تفخر بأخيها فى كل مناسبة فتحكى لأمى عن خالها قصص صلاحه ونوادر كرمه وطراف إنسانيته الجمة الفاياضة،كما لو كانت تحكى عن صحابى جليل،كان كرمه كالريح المرسلة ينفق ولا يخشى الفقر ولا تقلبات السنين والأيام،تبرع بهذه الأرض الواسعة لبناء المسجد ومن خلف المسجد ترك فسحاية مترامية الأطراف لعمل الخيرات. كتحفيظ القرآن الكريم وإحياء ليالى رمضان حتى مطلع الفجر، وقد تحولت فيما بعد إلى مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم وتولى أمرها الشيخ سيد عبد الرحيم خادم المسجد الذى جاء من مدينة غزالة بالخيس مركز الزقازيق ليعمل مؤذنا للمسجد من لدن وزارة الأوقاف المصرية،طبعا كان مسجدنا يعمل به بعض الرجال الذين انتهوا من خدمتهم بالقوات المسلحة بعد انتصارنا العظيم فى حرب السادس من أكتوبر وانتصارنا على العدو الصهيونى،كان هؤلاء الرجال لاعمل لهم وقد مكثوا مجندين قرابة السبع أو الست سنوات أو تزيد وما إن أنهوا خدمتهم حتى وزعتهم الدولة خداما على المساجد،كان من هؤلاء الشيخ محمد أبو الرومى والشيخ معروف حبيب من قرية أولاد مهنا كعبة العلماء ومثوى حفظة كتاب الله،ومقر الشيخين الجليلين:على بيومى وأخيه الأستاذ الدكتور أحمد بيومى الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف بالزقازيق. لكن معظم الرجال الذين عينتهم وزارة الأوقاف فى المسجد كانوا لا يحفظون القرآن كله ولايحيدون أحكام تلاوته إحكاما دقيقا،ومن هنا كان مجىء الشيخ سيد عبد الرحيم حافظا لكتاب الله إلى قرية الكفر القديم ليعمل مؤذنا فى مسجد العيسوية فتحا مباركا ووجه السعد واليمن والبركات على القرية كلها فقد كان رجلا دينا وقورا متواضعا يحفظ كتاب الله إذا حدثك لاترتفع عيناه أبدا إلى وجهك،وإذا سلم عليك يمد يديه فى حياء الأطفال ولا يثنيهما عنك إلا عندما تنتهى أنت أولا من سلامك عليه،يد رقيقة ووجه حيى ونظرات خاشعة مسكونة بعبق القرآن،إذا تحدثت إليه حدثك بلطف الروح وندواة الخلق الكريم،كان الشيخ سيد حافظا لكتاب الله متقنا لأحكام القراءات وضوابط التلاوات،وكان صاحب صوت شجى عذب يقرأ فتحس أن أشجان البلابل وأحزان اليمام وهديل الحمام قد سكنت فى روحه وصدره ثم تسربت إلى صوته المبحوح المشجون بالحزن والرقة والانسياب الملائكى العطر،تصيخ السمع لصوته فتحس كأن ورود الربيع قد نفحت عطرها كله فى أغصان حنجرته الشجية،بحة محزونة ورهافة شجن وانسياب عطر يوزعه على السامعين. كان مجىء الشيخ سيد عبد الرحيم لجامع العيسوية أشبه برجوع قميص سيدنا يوسف عليه السلام إلى عينى سيدنا يعقوب فارتد بصيرا بعد عمى، فى كل مرة نذهب للصلاة فى المسجد نرى الشيخ خالعا ملابسه لتنظسف المسجد إلا فضلة من شال رقيق يستر به جسده،يغسل الشيخ المسجد كله شبرا شبرا كأنه بيته الحميم ثم يشعل الكولوب حتى تتوهج الرتينة فى قلبه ثم يطلق بعض البخور فى سماء المسجد حتى تتندى جوانبه بروح علوية رضية،يدخل المصلون واحدا إثر آخر حتى يمتلىء المسجد عن بكرة أبيه،يقيم الشيخ الصلاة ثم يؤم المصلين،فما إن أمَّ الناس واستمعوا لصوته الجميل حتى توافدوا عليه جماعات وفرادى كما تتوافد الطيور العطشانة على نبع عذب شهى،تمنوا عليه أن يحفظ أولادهم كتاب الله ،والله لايضيع أجر المحسنين وافق الرجل على الفور فجهز الباحة الخلفية للمسجد لهذا الغرض الروحى المقدس. فى اليوم الأول من صول الشيخ سيد عبد الرحيم إلى قريتنا احتفت به أمى احتفاءا عظيما على عادتها فى إجلال أهل القرآن ثم دعته إلى مأدبة الغداء فى دارنا فلبى الشيخ الدعوة،أكلنا وشربنا وحمدنا ربنا الكريم ثم قمنا للصلاة فأمنا الشيخ سيد بصوته الشجى الصافى،وبعد أن انتهى استقبل الشيخ القبلة فتلى ماتيسر له من أى الذكر الحكيم فقرأ سورة الرحمن وهى السورة التى كانت أمى تكن لها حبا جارفا فهى عروس القرآن،وهى سلواها فى الحزن،ونجواها فى الأمل،كانت أمى تعيش مع سور القرآن حياة خاصة فريدة،كانت كل سورة تمثل لها سيرة ذاتية مخصوصة عن حياتها الخاصة،وكأن القرآن قد تنزل على روحها،فقد كانت تقول القرآن لم ينزل مرة واحدة للأبد بل ينزل كل يوم من جديد على أرواح المؤمنين،فكأن لكل روح خاصة قرآنها الخاص تتلوه وتتمثله وتتنفسه وتعيشه حسب أشواقها وأحزانها وبلواها فلكل روح فى الحياة بصمة قدرية لاتتكرر، كانت أمى عندما تقرأ سورة الرحمن خاصة يجرى فى صوتها دموع وأشواق وشجن مكتوم،وكل شيخ يزور بيتنا تتمنى عليه أمى أن يقرأ سورة الرحمن،كأنها كانت تتذوقها عبر كل الأحاسيس والأذواق والظلال والألوان،حتى وصيتها الخالدة التى كتبتها قبل وفاتها بثلاثة أشهر كما هو مؤرخ فى الوصية التى كتبتها بخط يدها وتركتها مطوية فى دولاب ملابسها أوصت فيها أولادها الست المفرقين فى بلاد الله بين الوهم والعمل والأجل بأن يقرأوا على روحها الموصولة بالقرآن سورة الرحمن،قرأ الشيخ سيد السورة،فسكن بيتنا عطر روحى جديد لم يذقه من قبل،أنهى الشيخ ترتيله،وترك عطره محوما فى الآفاق ثم ذهب للمسجد كى يتجهز لصلاة العشاء،قبيل الصلاة بنصف ساعة جاء المهندس سيد بفة إلى المسجد وكان شابا مهذبا طموحا،فى العام الثانى من كلية الهندسة، جاء ليستقبل الشيخ سيد المؤذن الجديد للمسجد ومعه جهاز تسجيل غريب أتى به من فرنسا بعد رجوعه منها فى أجازة الصيف فى أوائل السبعينيات،كان شكل الجهاز عجيبا بالنسبة لنا فهى المرة الأولى التى نرى فيها جهاز تسجيل يدخل القرية،كان شيئا أشبه بقصص الخيال العلمى بل قصص المستحيل،التى جعلت الإنسان ينطق الحديد،ويفر من الأمكنة،ويطوى الأزمنة راجعا بها إلى الماضى أو مسافرا بها إلى المستقبل،جهاز أسود مستطيل له مؤشر أبيض مرهف منقوط بنقط حمراء فى وسطه، إذا حركه المستخدم يطوف سريعا يمنة ويسرة على وجه مساحة بيضاء مستطيلة على وجه الجهاز،الجهاز له ميكرفون صغير يمسكه بيده من يريد التسجيل،جلس المهندس سيد بفة بقامته الفارعة ووجهه الممتلىء بالبياض الوردى،نادى على الشيخ سيد قائلا له اليوم سأشرف بتسجيل صوتك على هذا الجهاز تعجب الشيخ سيد حتى برقت عيناه الخاشعتان لكنه كتم دهشته الجامحة فى صدره فبانت على وجهه المشرق الوضىء،جلس الشيخ سيد فى الحجرة المخصصة له الواقعة بجوار باب المسجد وبجواره المهندس سيد وأنا والشيح حسن خلاف،أمسك الشيخ بالمايك ثم بدأت تسيل من صوته الشجى خلايا العسل الربانى الصافى،ظللنا على هذه الحالة نصف ساعة،ثم ختم الشيخ التلاوة،فأمسك المهندس سيد بفة بالجهاز فأرجع الشريط للخلف تارة أخرى يكر مافات،ثم أسمعنا صوت الشيخ من البداية حتى النهاية مرة أخرى ونحن جلوس كأن على رؤوسنا الطير،جلس الشيخ سيد منذهلا يصيخ السمع لصوته الذى تبخر فى الهواء حتى تلاشى ثم تجمع من جديد بللورات ذهبية مشعة،حدق الشيخ تكسو وجهه فرحة الأطفال كأنه يرى نفسه لأول مرة فى حياته يسمع الشيخ وأنا أسترق النظر إلى وجهه فى خفاء الصمت،أتعجب من روابيع الفرح تهطل على وجهه المبلول بعطر الرضا،نصف ساعة كاملة من الشجى والعذوبة والغرابة والفرح الربانى الغامر ما إن انتهى صوت التسجيل من التلاوة حتى حان وقت صلاة العشاء،قام الشيخ سيد فرفع الأذان ثم أمنا فى الصلاة.ولم يعد حال الشيخ بعد أن سمع صوته فى التسجيل كحاله قبل التسجيل. عندما وثقت القرية فى الشيخ سيد كان كل بيت يدعوه يوما لمأدبة غداء أو مأدبة عشاء،والحق يقال كان الرجل عفيفا زاهدا وقورا ولكن الله يلقى محبته على من يشاء من عباده،توافد كل أطفال القرية على كتاب الشيخ سيد يشربون من رحيق نهر القرآن العظيم. كان محمد أبو كامل أبو رباح أول من حفظ القرآن فى البلدة على يد الشيخ سيد،فكان يوما مشهودا من أيام قريتنا لاأنساه أبدا فمن وقتها انفتح عطر شهى من السماء فسرى فى كل بيوت القرية فما يوجد بيت فى القرية إلا وعطر القرآن يتماوج بين جنباته ليل نهار.حتى طارت شهرة قريتنا بأنها قرية حملة القرآن بين كفور العايد قاطبة. فى منتصف التسعينيات فى إحدى أجازاتى الصيفية من عملى فى المملكة العربية السعودية رحت أزور قريتى القديمة،ركنت سيارتى بجوار صديقتى شجرة التوت العملاقة التى صادقتها غصنا غصنا،وقلت فى نفسى أمشى على قدمى إجلالا لأيامى الخوالى،واشتياقا للطرقات الترابية التى مشينا عليها بأرواحنا وأفراحنا من قبل،فبين قدمى وبين طرقات قريتى مودة قديمة،جلست بجوار المسجد القديم أمد بصرى للأفق البعيد بجوار بيت الحاج فتح الله أبوعيسى فلم أرى نخلة البلح العامرى،سقطت النخلة وبنوا مكانها محلا لبيع الملابس الجاهزة،أما فسحاية المسجد الخلفية التى كنا نحفظ فيها القرآن مع الشيخ سيد فقد باعها الحاج عوض الله لرجل غريب عن القرية اشترها وبنى عليها دكانا يبيع فيه السجائر والأدوات البلاستيكية. أحدق فى أسى فى الفراغ المحيط بى،أبحث عن طرقات خضراء قديمة،أو حتى أشتم هذا السكون الفخم الذى كان يحيط بجامع العيسوية فى صمت الظهيرة أو غبشة المساء،تعبت من السير على قدمى الموجعتين وسط ظهيرة لافحة حارقة،قلت أستريح قليلا بجوار السور القديم للمسجد علنى أشتم رائحة السلام الفضى الذى كان ينام على الأرض والسماء والدور والأزقة،فجأة أذن المغرب وخش الظلام فمد خيمته المعتمة تبلع الدور والطرقات والمدى،أحسست بالكرب والألم،دخلت المسجد لأصلى المغرب،سألت عن أصحابى القدامى الذين كانوا لاينقطعون عن الصلاة،قالوا: بعضهم سافر للخارج وتزوج من هناك ولم يعد،وبعضهم مات من سنين،وبعضهم يجلس وحيدا فى نهاية القرية بعد أن تزوج أولاده وماتت زوجته،لكنى وجدت فى المسجد شيخا أزهريا عصريا يلبس بنطالا وقميصا فضفاضا أقام الشيخ الصلاة فامتعضت فى نفسى من شكله الغريب الذى يفتقد هيبة الدين وجلال المسجد،تقدم ليؤمنا فى الصلاة،ثم قرأ فى الركعة الأولى الآية رقم 162 من سورة الأعراف ( فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون).انتهيت من صلاتى،وجلست أحدق فى أبواب المسجد وزخرفاته القديمة،كان معظمها قد شحب وبهت وتمدد على الأعمدة عنكبوت غامض لم يره أحد سواى،والغريب أنهم قد أغلقوا الباب الأيمن للمسجد الذى كنا ندخل منه للصلاة قديما مع الشيخ سيد وبدلوه بالباب الخلفى،اقتربت من الإمام فسألته من أى البلاد أنت؟ قال من قرية النخيلة بأسيوط،ثم استدار نحوى وسألنى: وأنت؟ قلت له والحزن يحرق روحى أنا غريب جئت من بلد بعيد أسأل هنا عن صديق قديم اقترض منى مبلغا ولم يرده،وقد أخلف ميعاد سداد دينه،بحثت عنه كثيرا فلم أجده،فلما بلغ منى التعب،ودخل على ظلام المغرب قلت فى نفسى أرح نفسى بالصلاة حتى لا تفوتنى قبل سفرى البعيد،صمت قليلا ثم قال لى المغرب غريب،ثم قلت له: هل تعرف الشيخ سيد عبد الرحيم المؤذن القديم للمسجد فقال لى وهل أنت تعرفه؟ قلت نعم لقد أكلنا وشربنا هنا ذات شوق قديم،ثم باعدت بينى وبينه السنون،فقال لى تعيش أنت لقد مات الشيخ الجليل منذ سنين طويلة وعندما ودعناه اصطف أهل القرية جميعهم كأنهم الحجيج فى يوم طواف الوداع بمكة المكرمة،طابور طويل كثيف من البشر المعزين امتد من قرية الكفر القديم حتى قرية الشيخ (غزالة الخيس)،كان المعزون يتناوبون رجلا بعد آخر على حمل نعش الشيخ الجليل،وكأنهم يتناوبون على دفن بعضهم بعضا فى طريق الفناء الطويل،يسيرون فى صمت ويسير معهم فى تشييع الجنازة الطير والشجر والحجر وبلابل السماء.رحمة الله على الطيبين المصطفين الأخيار.
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights