يسرى حسان يكتب : لينين الرملي وأسئلته الملتبسة فى «إضحك لما تموت»

0
يبدو الأمر، في ظاهره، بسيطاً وسلساً. مجرد حكاية عن صديقين قديمين التقيا بعد أن وصلا إلى سن السبعين تقريباً. أحدهما أستاذ جامعي يدرس التاريخ، وله مؤلفات كثيرة مهمة، تنكّر لما كتب وانعزل عن واقعه، وقرر الانتحار ببطء من طريق عدم تعاطي الأدوية التي وصفها له الأطباء. والآخر فنان تشكيلي لديه مشكلة مع زوجته التي تصغره وتطرده من البيت، فضلاً عن مشكلته مع ابنته، من زوجته الأولى، التي تركته وهاجرت إلى خارج البلاد، فيلجأ إلى صديقه؛ أستاذ التاريخ؛ ليقيم لديه بعض الوقت، ثم تتوالى الأحداث. هذا هو الإطار الأساسي الذي تدور في أجوائه مسرحية «إضحك لما تموت» التي يقدمها المسرح القومي المصري، في القاهرة للكاتب لينين الرملي، والمخرج عصام السيد. لكن هذا الإطار يفضي إلى ما هو أعمق بكثير من خلال الخطوط الدرامية الأخرى التي تتفرع عنه، لتكشف عمق مأساة مجتمع في حيرة من أمره، تتنازعه أسئلة لا توجد إجابات محددة عليها. هنا يجد المشاهد نفسه في حيرة من أمره هو الآخر، وعليه أن يمعن النظر ويفكر ملياً في شذرات عرض، يبدو للوهلة الأولى بسيطاً وناعماً. أستاذ التاريخ (نبيل الحلفاوي) انتابه اليأس، وتنكّر لكتبه ومقالاته، التي كانت بين ما دفع دفعت الشباب إلى ثورة، انضم ابنه إليها. يقيم في شقة تطل على «ميدان التحرير»، المشتعل بالثورة، لكنه يصرّ على إغلاق نوافذها. لا نعلم موقفه المحدد من الثورة، وإن شعرنا بأنه غير متحمس لها. هناك جثة متحركة في شقته، ربما دلالة على موته هو شخصياً، وهناك فتاة (إيمان إمام) التقطها من الشارع تعاني نوعاً من العته، تقيم معه كإبنة له ترعاه ويرعاها، وهي، في عتهها هذا- تبدو ممثلة للشعب- لا تدرك حتى أن هناك ثورة. بينما صديقه الذي لجأ إليه (محمود الجندي) كان فناناً تشكيلياً مرموقاً، اضطر إلى العمل مصوراً فوتوغرافياً ليكسب قوت يومه. الفن إذاً لم يعد قادراً على إعاشة مبدعه، وابنته تتحدث إليه بالكاد وفي شكل سريع عبر الهاتف، والهاجس الوحيد الذي يطارده هو الانتحار. يتذكر الصديقان جارة لهما، ويؤكد كل منهما أنها كانت تحبه هو. يتم استدعاء الجارة (سلوى عثمان) ويقارن الفنان التشكيلي بين صورتها التي رسمها لها، وبين ما وصلت إليه، فتصيبه الصدمة. هو يقول إن اسمها «حرية» وأستاذ التاريخ يقول «حورية»؛ أما هي نفسها فتقول إن اسمها «حربية»؛ وعليك كمشاهد أن تفك هذه الشفرات. يفاجأ الاثنان بأنها لم تكن تحب أياً منهما، وأنها تزوجت سلفياً، أكسبته سنوات ما قبل الثورة أموالاً كثيرة. هذه الحبيبة التي جاءت من الماضي على صورة مغايرة تماماً لما توقعه الصديقان، هل هي مصر الآن؟ سؤال تظل إجابته عالقة أيضاً. الفتاة تقودها قدماها إلى «ميدان التحرير»، حيث تقابل شاباً مصاباً، فتأتي به إلى الشقة لتعالجه، بعد أن انجذبت نحوه عاطفياً. أستاذ التاريخ، وقد لاحظ إعجابها بالفتى، يطلب منه الارتباط بها، لكن الشاب، الذي ينادي مع رفاقه بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، يتهرب بعد أن علم أنها تعرضت للاغتصاب الجنسي سابقاً، ما يعكس تناقضاً بين ما ينادي به، وبين ما يفعله. العرض ينتهي بموت أستاذ التاريخ وصديقه، وارتفاع حدة الثورة وتقدم الشباب، الذين لا يبدي العمل حوهم شعوراً محدداً، سلباً أو إيجاباً، فهل قصد أن حضور الماضي لم يعد له معنى، وأن عليه أن يختفي تماماً، تاركاً الفرصة لأجيال جديدة، حتى لو كانت متناقضة مع نفسها، وتدعي غير ما تفعل؟ ربما. أحسن المخرج عصام السيد في تعامله مع النص الملتبس أو الذي أراد صاحبه أن يكون كذلك، واستطاع تقديم عرض متماسك وبسيط مظهراً قدراته في حسن توظيف ممثليه، بخاصة نبيل الحلفاوي ومحمود الجندي اللذين دخلا في مباراة بما يمتلكانه من خبرة في الوقوف على الخشبة. أديا ببساطة متناهية. لا افتعال ولا مبالغة ولا تمثيل، بمعنى عدم التقمص أو التماهي في الشخصية تماماً، وكذلك إيمان إمام التي أدت دوراً جديداً عليها، بعد أن شاهدناها في أدوار مختلفة تماماً، ومنها دورها في «ميس جوليا» وكذلك دور «نورا» في «بيت الدمية». استعان عصام السيد بتقنية جديدة على المسرح المصري، وهي تقنية «الفيديو ميننغ» وبواسطتها عكس بعض الأحداث مصوّرة على قطع الديكور، وقد استخدمها من قبل في عمل احتفالي ولكن من خلال الغرافيك، أما هذه المرة فعبر الشخصيات البشرية. وأتاحت له هذه التقنية مساحة جيدة لاستعراض قدراته كمخرج، سواء من خلال الفلاش باك أو من خلال الأحداث الآنية، فعل ذلك من دون أن يشعر المشاهد بأي خلل في الأحداث أو بأي نقلات فجائية تدخله في متاهة جديدة إضافة إلى متاهة النص نفسه. أما مهندس الديكور محمود الغريب، فجاء تصميمه هو الآخر بسيطاً، استغل إمكانات خشبة المسرح القومي وعمقها، في تصميم الشقة التي تدور فيها غالبية الأحداث، وكذلك ميدان التحرير، الذي جاء في خلفية الشقة، من دون أن يلجأ إلى تغيير المنظر وما يصاحبه ذلك من «بلاكات» يمكنها ضرب إيقاع العرض في مقتل. فنافذة الشقة عندما تفتح يظهر لنا الميدان في الأسفل بكل أحداثه واحتداماته، وغلب على ديكوره التشكيل الجمالي الذي ساهم في إثراء الصورة المسرحية، إضافة إلى ملابس نعيمة عجمي، واستعراضات شيرين حجازي، وموسيقى هشام جبر. «إضحك لما تموت»، ربما لا يجعلك تضحك من خلال موقف أو «إفيه» لكنه أراد لك أن تضحك على أحوال مجتمع في لحظة سائلة وحرجة. هو عرض من النوع الثقيل الذي يبقى في الذاكرة طويلاً، ليس فقط من خلال موضوعه الذي يناقش قضية آنية، وإنما أيضاً عبر بلاغته التي تبدّت في الأداء التمثيلي الممتع، وكذلك عناصره كافة التي وظّفها مخرج مخضرم، يدرك احتياجاته من كل عرض يقدمه، ويمنحه ما يحتاج من دون إسراف، وكذلك من دون تقتير. الأكثر قراءة اليو  
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights