حسام إبراهيم يكتب : قصة المتحف القبطي ومعنى ثقافة التنوع!!

0
    هذه القصة اكبر من مجرد احتفالية بذكرى افتتاح متحف !!..فالاحتفالية الحالية بمناسبة مرور 108 أعوام على افتتاح المتحف القبطي رسميا في القاهرة تشكل علامة مضيئة بقدر ماهي دالة على مدى ثراء الثقافة المصرية وتنوعها في اطار الوحدة الوطنية..والاهتمام الواضح بهذه الاحتفالية الثقافية يعكس حقيقة ان العصر القبطي يشكل جزءا عزيزا من التاريخ الثقافي لمصر الخالدة كما تشكل الكنيسة المصرية قلعة من قلاع الوطنية المصرية.  واذا كانت الثقافة تعني في احد ابعادها المتعددة ممارسة اي فعل يومي على نطاق واسع بطرق واشكال لانهائية فلعل الاحتفالية الحالية في المتحف القبطي تجسد ثقافة التسامح والتنوع الخلاق ومعنى الاخاء وتلاوين المحبة بين جميع المصريين في نسيج وطني واحد..ووسط مشاركة فاعلة لوزارتي الثقافة والتربية والتعليم تتضمن احتفالية المتحف القبطي عروضا فنية وتنفيذ نماذج فنية لبعض القطع الاثرية بالمتحف وافتتاح قاعة عرض متحفي جديدة حسبما أوضحت مدير عام المتحف جيهان عاطف. وتأتي هذه العروض الفنية في المتحف القبطي فيما صدر كتاب لافت بعنوان “فن الانشاد الديني” تناولت فيه المؤلفة مروة البشير هذا الفن عبر مسيرة التاريخ المديد لمصر منذ المصريين القدامى مرورا بالعصر المسيحي حيث اقترن هذا الانشاد بالموسيقى والترنيم ووصولا للانشاد الديني بعد الفتح الإسلامي حيث تطور هذا الفن بمدارس ابدعها المصريون وباتت علامة حضارية مصرية في فن الانشاد .  ويعد المتحف القبطي في القاهرة اكبر متحف في العالم للآثار المصرية في العصر القبطي وهو  تحفة معمارية من روائع العمارة القاهرية وجدد عدة مرات أهمها عندما تطويره بجناحيه القديم والجديد وافتتح بعد هذا التجديد في عام 1984 مع “الكنيسة المعلقة” في مصر القديمة كما جدد في عام 2006 وجرى الربط “بممر” بين جناحيه القديم والجديد فيما توزعت مقتنياته على 26 قاعة مع تقسيمها نوعيا الى 12 قسما. ولن يخفى مغزى حقيقة تاريخية في سياق قصة المتحف القبطي تتمثل في ان من تصدروا قائمة الاكتتاب لاقامة هذا المتحف كانوا من المسلمين وفي مقدمتهم “الأمير حسين كامل الذي اصبح فيما بعد السلطان حسين كامل”..وكذلك لن يغيب مغزى ان المتحف القبطي يضم بين مقتنياته “مسرجة من البرونز مقبضها على شكل الهلال والصليب ويرجع تاريخها للقرن الثالث عشر الميلادي الى جانب العديد من المقتنيات التي تحمل مؤثرات فنية اسلامية”. وواقع الحال ان “مرقس سميكة باشا” الذي أقيم تمثال نصفي له على قاعدة رخامية قبالة المدخل الرئيسي للمتحف القبطي باعتباره اول مدير لهذا المتحف  كان أيضا في وقت مبكر من القرن العشرين رئيسا للجنة المسؤولة عن حفظ الآثار اليهودية والمسيحية والإسلامية وعرف بشغفه الآثري واهتماماته الثقافية في حقل الآثار والتاريخ..وفيما يقود الأزهر الشريف على مدى اكثر من الف عام الفكر الإسلامي المعتدل ويشكل بحق احد معالم الهوية المصرية وقلعة منيعة للدفاع عن قيم الثقافة والحضارة الإسلامية السمحاء يؤكد الامام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر الشريف على ان “الشعب المصري بكل اطيافه ومكوناته نسيج واحد يستعصي على التمزق والفرقة”. وهكذا  أيضا يقول مثقف مصري كبير هو الكاتب والشاعر احمد عبد المعطي حجازي ان المسيحيين في مصر ليسوا اقلية موضحا ان “العامية المصرية هي ثمرة اللقاء بين العربية الفصحى والمصرية القبطية” كما ان “الشهور القبطية هي الزمن الذي يحياه الفلاحون المصريون والأعياد والموالد المسيحية والإسلامية ليست مجرد أسماء ومناسبات ولكنها ثقافة وطنية جامعة”..كما يلفت احمد عبد المعطي حجازي لحقيقة تاريخية تتمثل في ان “الكنيسة المصرية بعقيدتها وكيانها المستقل كانت رمزا نبيلا من رموز الوطنية المصرية  مضيفا ان المسيحيين من المصريين “ركن أساسي من اركان هذا المجتمع وبدونهم لاتكون مصر هي مصر التي نعرفها ونحبها وننتمي اليها ولايكون المصريون بدونهم امة عريقة لها تاريخها الحافل ولها مستقبلها الذي لابد وان يكون امتدادا طبيعيا لماضيها”. والكنيسة الأرثوذكسية العريقة منذ نشأتها بالأسكندرية في القرن الأول الميلادي باتت حاضنة للوطنية المصرية وقوة من القوى الفاعلة في صياغة “شخصية مصر” وهويتها الثرية والمتعددة المستويات بتراكمات حضارية غنية. .وبذلك فعندما نتحدث عن المصريين ممن يدينون بالمسيحية  فالحديث يكون عن مكون مصري اصيل بكل ماتعنيه الكلمة حتى انه لايجوز الحديث عما يسمى “بعنصري الأمة المصرية لأن المصريين في الحقيقة والتاريخ والواقع عنصر واحد” كما يؤكد الكاتب والشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي. وللكاتب الراحل انيس منصور الذي قضى في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 2011 كتابات دالة عن الدور الثقافي لبعض الأديرة في القاهرة مثل “الدير الدومنيكي” الذي كان يتردد عليه حيث ارتبط بعلاقة وثيقة “بالأب قنواتي” الذي يعتبره احد اساتذته ووصفه بأنه كان “نموذجا للصفاء والرواء في الوجه والفكر والسماحة والأستاذية”. ومن هنا فمن الطبيعي ان يحظى المتحف القبطي في القاهرة  باهتمام المثقفين المصريين والمؤسسات الثقافية الكبرى في مصر وذات الطابع العالمي مثل مكتبة الأسكندرية التي نظمت عبر برنامجها للدراسات القبطية محاضرة في الرابع من شهر فبراير الماضي للباحث الفرنسي جوليان اوبير حول تاريخ هذا المتحف المصري العريق وبداياته. وفي مقابلة صحفية قال مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الأسكندرية الدكتور لؤي السعيد ان هذا المركز اطلق بالتعاون مع الكلية الانجيلية بالعباسية “دبلومة التراث العربي المسيحي” وهي خطوة تنسجم مع حقيقة ان “المسيحية العربية” على وجه العموم جزء اصيل في تاريخ وذاكرة الأمة العربية . وكانت رئيس قطاع المتاحف بوزارة الآثار الهام صلاح الدين قد افتتحت  المعرض المقام في المتحف القبطي بعنوان :”من روائع الفن القبطي” فيما يختتم يوم “الثلاثاء” ليشكل جهدا ثقافيا جديدا في الاهتمام المستمر بالتراث القبطي..كما افتتحت الهام صلاح الدين معرضا اخر يستضيفه متحف الفن القبطي الواقع في “مجمع الأديان” ويقام بالتعاون مع كلية التربية الفنية بجامعة حلوان بعنوان :”الاستلهام من التراث”..والمتحاف القبطي الذي أسس عام 1908 وافتتح رسميا عام 1910 داخل “حصن بابليون” في منطقة مصر القديمة بالقاهرة ينقسم لجناحين ويضم نحو 16 الف قطعة اثرية قبطية تتوزع على عدة اقسام من بينها :”قسم الأحجار والرسوم الجصية” و”قسم تطور الكتابة القبطية والمخطوطات” و”قسم الأقمشة والمنسوجات” و”قسم العاج والأيقونات” و”قسم الأخشاب” و”قسم المعادن” و”قسم الفخار والزجاج”. وفيما اقترنت البدايات التأسيسية للمتحف القبطي في القاهرة بأسماء ثقافية مصرية واجنبية مثل مرقس سميكة والعالم الفرنسي الشهير “ماسبيرو” ونشر اول دليل لهذا المتحف عام 1930فانه يضم مخطوطات تعود لآلاف السنين ..ومكتبة المتحف القبطي تضم آلاف المخطوطات التاريخية وهي مزودة بوسائل الحماية من عوامل كالرطوبة مع ضبط درجات الحرارة كما يضم المتحف برديات مهمة مثل “برديات نجع حمادي” فيما تغطي “مشربيات” بديعة الحوائط الخارجية لهذا المتحف المصري بين جناحيه القديم والجديد. وأشار الأستاذ في كلية اللاهوت الانجيلية الدكتور وجيه ميخائيل الى ان نحو عشرة الاف مخطوطة من التراث العربي المسيحي موزعة مابين المكتبات والمتاحف والكنائس وكليات اللاهوت معتبرا ان هناك حاجة “لتجميع وتصنيف وتحقيق هذا التراث”. واذا كان المصريون يبرهنون دوما على صدقية مقولة بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل البابا شنودة :”ان مصر وطن يعيش فينا” فانهم يتفقون أيضا مع  البابا تواضروس الثاني في اطمئنانه بشأن “مستقبل مصر ذات التاريخ والحضارة وصاحبة اول حكومة مركزية تجمع كل المصريين” فيما كانت مصر ومازالت مكانا دالا على معنى التنوع وتجلياته الانسانية. انه واقع مصري قد يقدم إجابة واثقة لتساؤلات قلقة لمثقفين حول العالم مثل الكاتبة الأمريكية آنا هولمز التي راحت تتأمل احوال بلادها والعالم لتبدي في طرح بجريدة نيويورك تايمز شكوكا عميقة حول مااذا كانت كلمة “التنوع” بكل ماتنطوي عليه من معنى ومفاهيم قد باتت مجرد “كليشيه” او “تعبير مبتذل بتكرار ينكره الواقع” وربما “مجرد تعمية لفظية رقيقة لواقع انساني معاصر ينضح بالتعصب”. والتنوع البناء في مصر لايتعارض مع ملامح الهوية الواحدة للمصريين حيث “التنوع في اطار الوحدة” دون ادنى افتعال او تلفيق وهكذا فمن الطبيعي ان تشهد مصر بعد غد “الأربعاء” أي غداة اختتام احتفالية المتحف القبطي بالذكرى ال 108 لتأسيسه احتفالية ثقافية أخرى بمناسبة “يوم التراث العالمي” وان يستعد “شارع المعز في قلب القاهرة الفاطمية” لهذه الاحتفالية التي تفتح فيها كل المواقع الأثرية المسجلة على قائمة التراث العالمي والمتاحف الأثرية مجانا للمصريين والعرب. انها ثقافة مصرية من نسغ النيل والوجوه الطيبة واتساق الزمان والمكان وتناغم عذوبة الأذان مع اجراس الكنائس في شوارع ودروب من ضياء..انها مصر التي باركها السيد المسيح فيما اكد سيدنا ونبينا محمد على انها “كنانة الله في ارضه من ارادها بسوء قصمه الله”.  
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights