د. محمد فراج أبو النور يكتب سباق صاروخي أمريكي – روسي

0

*لا تترك التطورات الجيو- استراتيجية والعسكرية، والخطوات المتلاحقة التي تتخذها الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ سبيلاً أمام موسكو، غير السعي الحثيث والمتسارع باستمرار لتحديث نظام الدفاع الصاروخي الروسي، بما يمثله ذلك من تكلفة شديدة الفداحة. هذا ما تثبته الوقائع منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الأيام الأخيرة التي شهدت إعلان وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس وثيقة «العقيدة النووية الأمريكية الجديدة». بمجرد انهيار حلف وارسو، ثم الاتحاد السوفييتي وانسحاب القوات الروسية من بلدان أوروبا الشرقية، بدأت الولايات المتحدة تطبيق استراتيجية حلف «الناتو» باتجاه الشرق وحصار واحتواء روسيا، وانضمت دول أوروبا الشرقية تباعاً إلى «الناتو» وصولاً إلى انضمام دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي عام 2004، بما يعنيه ذلك من وصول هياكل الحلف العسكرية إلى الحدود الروسية مباشرة، وبما يمثله من خلل فادح في علاقات القوى الاستراتيجية لغير صالح روسيا ومخاطر جسيمة على أمنها القومي. وأعلنت الولايات المتحدة (عام 2002) انسحابها من جانب واحد من «معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية»، الأمر الذي كان يعني إطلاق يد واشنطن في تطوير منظومتها للدفاع الصاروخي كمًّا ونوعاً، بما يرفع من قدرتها على مواجهة أي هجوم روسي محتمل – وبالتالي يعزز موقفها الدفاعي في مواجهة روسيا – وكانتتلك المعاهدة المعقودة عام 1972، تقضي بحق كل طرف في إقامة منطقتين محميتين بما يمكن أن نسميه «درعاً صاروخية مصغرة» حول العاصمة ومنطقة رئيسية لتخزين صواريخها النووية، في إطار نظام للرقابة المتبادلة. وإذا بدأت الولايات المتحدة في تطوير منظومتها للدفاع الصاروخي بحرية، أو نشرها في مناطق جديدة، فقد كانت روسيا هي الأخرى مضطرة لاتخاذ خطوات مماثلة – غير أن هذا كان يتم في ظروف بالغة الصعوبة بالنسبة لروسيا من الناحية الاقتصادية، وفي ظل حاجة ماسة لإعادة بناء وتنظيم الاقتصاد والقوات المسلحة والصناعات العسكرية بعد سنوات حكم يلتسين التي ألحقت بالبلاد أضراراً فادحة في المجالات كافة. وهكذا بدأت روسيا في تطوير ما يسمى «الدرع الصاروخية المصغرة» التي تحمي موسكو والمنطقة الصناعية المركزية في البلاد والمعروفة باسم منظومة «A- 135» المضاد للقذائف البالستية والذي يتراوح مداه بين 350 كم كحد أدنى و 900 كم كحد أقصى، ومع تعزيز قدرات المنظومة بإضافة الطرز الأكثر تقدماً من صواريخ (300-S) ثم بالطرز الأولى من صواريخ (300- S) ويتوافق مع هذه المنظومة نظام رادار للإنذار المبكر (نوردينيج – دي إم) يبلغ مداه (6000 كم) وبارتفاع (4000 كم) – مدى الرصد من أعلى. غير أن قرار إدارة أوباما ببناء منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية، وإدخال الحلفاء الأطلسيين كأطراف فاعلة فيها، قد طرح أمام روسيا تحديات جديدة، والمعروف أن نظرية الردع النووي المتبادل التي منعت نشوب أي حرب نووية طوال فترة «الحرب الباردة» – ولا تزال – ترتكز على حقيقة أن كلاًّ من القوتين العظميين تمتلك قدرات نووية (من الرؤوس الذرية ومختلف وسائل إيصالها) تكفي لتدمير الطرف البادئ بتوجيه الضربة النووية، بالرغم من الخسائر وإذا كان الهلاك النووي محتماً بالنسبة للبادئ بشن الحرب، فإن فكرة الحرب النووية نفسها تنتفي. أما الجديد الذي جاءت به فكرة «الدروع الصاروخية» الأمريكية، فهو توجيه الضربة النووية مع حرمان الخصم من إمكانية توجيه ضربة انتقامية، من خلال قيام «الدرع» بحرمان الخصم المفترض (روسيا) من إمكانية توجيه تلك الضربة الانتقامية بواسطة منظومة هائلة من منظومات الصواريخ وأجهزة الرادار والأقمار الصناعية تصد هذه الصواريخ وتدمرها، وتمنعها من الوصول إلى أراضي الولايات المتحدة- أساساً – وحلفائها، وباختصار فإن المفترض هو أن «الدرع» ستشل فكرة الردع المتبادل، وتوازن الرعب النووي! وزاد من خطورة هذه الفكرة (نظرياً) أن توسع حلف الأطلسي شرقاً، قد أتاح للولايات المتحدة وللحلف إمكانية نشر عناصر ومكونات «الدرع الصاروخية» بالقرب من الحدود الروسية مباشرة، في بلدان مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا، وفي الشرق، من اليابان. ونقول (نظرياً) لأن الطرف الآخر ليس من المفترض أن يجلس مكتوف اليدين في انتظار الضربة، أو يخضع لإرادة أصحاب «الدرع»، خوفاً من ضربة نووية لن يستطيع صدها، وبالتالي فقد كان منطقياً أن تلجأ روسيا إلى الرد الذي يتكون من شقين: الأول:-

شق هجومي:

أي خلق خطر على الخصم الأمريكي من خلال اختراق «الدرع» ببناء صواريخ استراتيجية جديدة تمتلك الصفة (الشبحية) التي تمكنها من الهروب من الرادار، فضلاً على التوسع في بناء الصواريخ متعددة الرؤوس، كما لجأت روسيا إلى بناء غواصات نووية تحمل صواريخ استراتيجية، وتجوب البحار بالقرب من سواحل الولايات المتحدة وحلفائها وهي غواصات تتسم بصفتها الشبحية هي الأخرى. كما أعادت روسيا تشغيل دوريات قاذفاتها الاستراتيجية الثقيلة (تو-160) و(تو-95) المحملة بصواريخ نووية هي الأخرى، وتستعد موسكو لبناء مزيد من هذه القاذفات الثقيلة، ومن ناحية ثالثة فإن روسيا قد أعادت تشغيل قطارات السكة الحديد التي تتحرك طوال الوقت وهي محملة بصواريخ استراتيجية. وباختصار فإن الولايات المتحدة إذا أقدمت على توجيه ما تسميه «الضربة الشاملة الخاطفة» إلى روسيا فسوف تظل خارج نطاق هذه الضربة ونطاق «الدرع الصاروخية» عشرات، وربما مئات من الصواريخ النووية الاستراتيجية القادرة على تدمير أمريكا، أو على الأقل إلحاق دمار هائل بها.

الشق الدفاعي:

وهنا نعود إلى منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ والطائرات، بل والأقمار الصناعية، وفي هذا الصدد نشير إلى ما أعلنته موسكو عن بناء نظام جديد للدفاع الصاروخي (A-235 نودول/ Nodul) يرتكز أساسا على الصواريخ الجديدة التي تحمل هذا الاسم، والمضاد للصواريخ البالستية والأقمار الصناعية والقادر على اعتراض الهدف (صواريخ عابرة للقارات/ أقمار صناعية.. الخ) على مسافة (1500 كم) من قاعدته والذي تم إجراء تجارب ناجحة عليه، والمفروض أن يدخل الخدمة قبل نهاية هذا العام (RT 21/2/2018). فيتكامل مع (A-235) وصواريخ (S-500) المقرر أن تدخل الخدمة هي الأخرى نهاية هذا العام أو بحلول 2020 على أبعد تقدير (سبوتنيك – 2018/2/19) القادرة على اعتراض الطائرات (الصواريخ البالستية والمجنحة، وضرب 10 صواريخ بالستية في وقت واحد، ويغطي رادارها دائرة قطرها (600 كم) ويمكنها الاشتباك مع الأهداف على ارتفاع (200كم) (RT- 2016/4/14) و(سبوتنيك 23/1/2017). كما يتكامل مع هذه المنظومة صاروخ (S-400) الشهير بطرازاته المختلفة والقادر على إسقاط الصواريخ البالستية متوسطة المدى والمجنحة والاشتباك مع 12 هدفاً في مدى اشتباك يصل إلى (400 كم) (العربية.نت 2017/10/6)، وتشكل أنواع الصواريخ الثلاثة المذكورة درعاً صاروخية روسية من ثلاثة مستويات بعيدة (A-235) ومتوسطة (S-500) وقريبة (S-400) وهي منظومة متكاملة قادرة على إسقاط الأقمار الصناعية والصواريخ العابرة للقارات والمجنحة، والطائرات القاذفة والمقاتلة (RT 25/10/2017) و(المنتدى العربي للدفاع والتسليح – 2017/10/27). يرى الخبراء أن المنظومة الروسية الجديدة متوازنة في تقدمها وكفاءتها مع منظومة الدرع الأمريكية المكونة من صواريخ (ايجيس وثاد وباتريوت) وأن هذه اللحظة قد تكون مناسبة لوقف سباق التسلح الذي يستنزف موارد باهظة، لكن أمريكا لا تبدو متفقة مع وجهة النظر هذه، كما يشير خطاب وزير الدفاع ماتيس (2018/2/20) الذي يرفض (المنافسة) الروسية، وكما تشير كل سياسة الولايات المتحدة – الرافضة قطعياً لتعدد الأقطاب – ولا يبقى أمام روسيا إلاّ أن تستميت في الحفاظ على توازن الردع النووي، كضمانة لتعددية القطبية في النظام الدولي وعدم انفراد أمريكا بالهيمنة على العالم، وهي أهم دلالة لتحديث  نظامها للدفاع الصاروخي.  
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights