د. هبة الهواري تكتب : فتحي عفيفي .. يوتوبيا المصنع و التشبث بالحلم

0
الفنان فتحي عفيفي .. ذلك الفتى القادم من جوار أم المساكين ، رئيسة الديوان ، المغمور بالنفحات و البركات و المسك ، ذلك الطفل الذي ضاع من أبيه في مولد الست ، و ظل في غيابة الزحام ستين يوماً بليالٍ قاسية مريرة لا يخففها إلا طيبة الناس الذين احتضنوه في مصر عتيقة حيث وجده أبوه ، ذلك الطفل الذي سحرته أعلام الدراويش و انجذب في سحابات البخور حتى لفته البيارق الشاهقة في ساحة مسجد ابن طولون العجائبية ، حيث المعمار الشاهق الحلمي الذي يصبغه الطفل بآلاف آلاف الرؤى و الأفكار و المخاوف و الحواديت ، لا تنمحي من ذاكرته قط تلك البوابة الحديدية و الأعمدة الشاهقة و السيدة التي تفرق فؤادها في الحارات و البيوت و الدكاكين بحثاً عن صغيرها الذي سحرته الأناشيد ، و خلبت لبه آهات المجاذيب و الذاكرين. حصل الفتى على شهادته الصناعية التي يحبها ، و يعتز بها المجتمع الناهض في العصر الذهبي للتصنيع آنذاك ، ثم انضم إلى حياة المصنع الحربي في فترة ما بعد هزيمة 1967 و أوج العمل في استعادة مصر لكرامتها و حرب الاستنزاف ، الرجال هناك كلهم أكبر منه سناً و خبرةً ، لكنه الوحيد الذي يحمل بذرة الإبداع في رأسه الصغير ، الرجال  هناك  يحلمون بالأمان ، يتخالسون كوب الشاي  في الوقت “البطال” ، و يتناولون وجبات ثلاث أمنها لهم نظام العمل في عهد عبد الناصر و يدعون له في قيلولاتهم الدافئة في ظلال الأفران و الماكينات الهادرة ، تلك العين المبدعة تتفحص ذلك العالم ، تنفلت منه تارةً و تراوغه ، و تنخرط فيه تارةً أخرى منضويةً في منظومته حد الانسحاق.  تبدو في لوحاته التي يعكف عليها آخر الليل ، تلك النظرة المغتربة المفارقة ، التي لا تخلو من رهبةٍ و انبهار ، بذلك العالم الحديدي الموار الذي لا يعرفُ الرحمة ، ذلك الإيقاع الصارم فيما بين لحظة التوقيع بالحضور لدى الموظف المتجهم ، و ختم البطاقة ، و لحظة اختتام الوردية في صمت مرهق يخيمُ على العائدين ، ترصد عين الشاب الجامح تلك الكائنات الحديدية المرعبة و تستخلص منها لغةً تشكيليةً جديدةً ، تتعشق منظومة العمل و تتغزل فيه ، تتفكر في العلاقات التي تحكم الأشياء في العالم الجديد ، تنظر بعين الصغير الجديد في المكان ، توقن بالقيم التي شكلت عقيدة جيل الستينيات من المثقفين و المبدعين في مصر ، تجهض أحلامهم مع النكسة و تنهض بهم عزائمهم من جديد حتى النصر في 1973 . يمضي في تقلبات ذلك العالم العجيب ، يشهد انهيار صرح اليقين و تحولات الثمانينيات الجارفة و عصر الانفتاح  لا زال الكائن الهادر في عقله  عفياً سليماً مخلصاً ، لا ينهار  و لا ينفجر و العمال يحلمون بمكافآت انتهاء الخدمة ، فيزوجون البنات و يهنأون بالقيلولة في قيعان الحوانيت الأسمنتية الخانقة. طاقة التحليق تنطلق بفتحي عفيفي للالتحاق بالقسم الحر بالفنون الجميلة ، و تظل تتنازعه ذاته المبدعة و تحضه حضاً على المفارقة و الطيران ، فتكون منحة التفرغ و السفر إلى الغرب ، لكن يظل الرحم الذي تكونت فيه تلك الذات و تم بناءها فيه هو الحياة في جوار السيدة زينب و الحياة الموازية في قلب المصنع الحربي ، عالم الزحام و تيارات الجموع المتحركة في بهجة و صبرٍ و أمل ، الفتيات الجميلات يطرن مع أثوابهن في الطرقات بالدراجات ،و العيال يتحلقون حول الحاوي و الناس ينتظرون خبز الفطور و جريدة الصباح و الحوانيت تتفتح فيها روائح العملِ و البخور و صوت الشيخ محمد رفعت ، الحلاقون و الحدادون و الحارات الموحلة و فرحة المطر الصبية .و تبقى عملية بناء الأنا الناقدة المبدعة لدى فتحي عفيفي ، في لقائه الصادم بعالم المصنع و الذي سوف نرى إلى أي مدى كان أثره في تكوين شخصيته و لغته التشكيلية المتفردة. يسعى فتحي عفيفي لتكوين فرادته في خضم المجتمع الرأسمالي الجديد فيما بعد الحداثة حيث التشيؤ و انهيار اليقين ، حيث أصبح الأسلوب الوحيد للمقاومة هو الاستمساك بالحق في الحلم ،هذا العالم الاستهلاكي الصاخب ،كل الأماكن فقدت هويتها ، أصبحت تحمل هوية الصانع ، المالك لخط الإنتاج ، أصبحت العلامة التجارية هي سيدة العالم ،انمحت الطبيعة و حل محلها مسخٌ هجين بين الآلة و الإنسان المتشيء المغيب ، ربما تحولت تلك الكائنات الهجينة التي يرسمها فتحي عفيفي إلى وحوش تسعى بيننا تأكل كل أثرٍ للحياة، هذا العالم الغرائبي غير قابلٍ للتنبؤ ، لا ينتمي لأيٍ من الثوابت التي كانت ، لم يبق إلا الحلم ، و الاستمساك بيوتوبيا المصنع التي عرفها منذ نبتت موهبته و شب في ظلها يؤمن بالعمل و الحرية و المساواة. يبدو لنا في مسيرة الفنان فتحي عفيفي المترعة بالتجارب و المفارقات كيف تتكون صيغة الأنا تتكون تدريجياً انطلاقاً من تجربتين أساسيتين : “الأولى هي تجربة الانفصال و الثانية هي تجربة الاستحواز .فالعديد من المواقف الإبداعية لدى فتحي عفيفي نراها تؤسس للانفصال عن واقع عالم المصنع الذي ينتمي إليه بقوة و تهدف لإعادة الاستحواز عليه من جديد لاستنقاذ ذاته و الانفلات من قبضة الانسحاق ،حيث أنها عملية جوهرية ملازمة لوجود الشعور ذاته أو دعونا نقول كيان المرء.مم تتكون تجربة الانفصال؟ هي تتكون من تجربة الإيمان بالواقع الجوهري و الفاعل للأشياء و لكن ذلك يتم في صورة خيال أسطوري يجعل العالم الخارجي هو مجال إبراز ذلك الواقع ، و هنا و الان لدى الغير.إننا نتعرف على العالم بفضل الأنا أو بالدقة ما نعرفه عن هذا العالم يصلنا عبر انطباعات هذا الأنا” إن العمل الفني  كتلة بصرية  لها أنظمة خاصة مفتوحة على التأويل بسبب تعددية الدلالات و تنوعها و هو منجز عبر تفاعل  المعاني و التراكيب القديمة و الحديثة أو السابقة و اللاحقة ، ضمن أنساق فرعية و أساسية ، حيث يقوم المبدع بتشكيلها و صياغتها في شبكة من العلاقات المنسجمة من حيث الترابط بين المعنى و ما وراء المعنى ، و بين التراكيب التشكيلية  و طرق صياغتها .فالعمل الفني  يكتفي بذاته ،بمعنى أنه يرفض الإسقاط من الخارج لأنه ينتج دلالات مفتوحة. أي أن المتلقي    –الناقد يرى دلالات العمل الخارجية داخل العمل بصفتها جزءً من ماهيته، و نحن إذ نتناول بعض أعمال فتحي عفيفي بالتحليل و النقد لا نحاول التعسف لاستنطاقها بما ليس فيها من معانٍ أو دلالات و لكننا نحترمُ إشاراته و تضميناته و نقتفي بعض العلامات التي صرح بها. فالمتلقي هنا  يستطيع أن  يضيف إلى هذه الكتلة التشكيلية  أو يحذف منها ،و هنا يقع في مجال الشراكة . و هو قد يكتفي بقراءة (إشعاعات العمل الممكنة ) أي التي تشع من محيط الدائرة دون أن يبتعد عن هذا المحيط ، لأن مركز القراءة الفاعلة يكون عادة حول نويات العمل .[2] وفي اللوحة رقم (1) البوابة : ألوان زيتية على توال 50 *70 سم (من مجموعة الفنان) 1978 .نرى فتحي عفيفي و هو يرسم البوابة من جديد و ذلك الطفل الذي تاه في المولد ،و ظل في غربته عن أمه و بيته شهرين كاملين حتى وجده أبوه عند أحد الأسر في مصر القديمة ،يصوغ الفنان عناصره من منظور الطفل ، فكل الأشياء مهولة الحجم بالنسبة إليه ،و الملامس خشنة بالغة القدم ، و الألوان شاحبة ، تآكلت الجدران و بها آثارٌ من رسومات شعبية ، النخيل و السمكات و العصافير ،و الطفل ضئيل الحجم يمد ذراعيه كالضرير في الظلام ، أو يمدهما ليبلغ  تلك السماوات التي يراها فوق القباب و المآذن و البيوت ،ترديد المستطيلات الرأسية يدعم التأثير البصري الموحي بالارتفاع الشاهق بالنسبة للطفل في قاعدة اللوحة ، التعبير الملمسي جاء موفقاً إلى درجة كبيرة ، و قريب جداً من ألوان و خشونة الجدران في حاراتنا الشعبية التي تطلى فيها بالجير الملون الرخيص ، الذي لا يصمد في مواجهة الرطوبة الطبيعية و الأمطار و أشعة الشمس ،و يبدأ في التآكل ، أتقن فتحي عفيفي   استخدام الألوان الزيتية شديدة السمك و الفرشاة الخشنة و ربما استخدم أكثر من طبقة لونية ثم تعمد إزالتها بهذا الشكل الموفق تعبيرياً و تشكيلياً. “ويؤكد الدكتور شاكر عبد الحميد على أن أحد المكونات الأساسية للنشاط الإبداعي في مجال الفن هو العلاقة بين الفنان وبيئته و مجتمعه ، وفن التصوير هو عملية مستمرة للتمثيل والانعكاس تتم من خلال الحصول على كمية كبيرة من المعلومات من البيئة، وهذه المعلومات من خلال امتزاجها بالذات المبدعة تتم صياغتها في أشكال فنية جديدة، والفن هو محاولة لتوصيل نسق القيم الداخلية للرؤية الخاصة بالفنان إلى المشاهدين أو الآخرين أملا في تحقيق نسق لقيم أخرى، وتغيير النسق القيمى لديهم. في اللوحة رقم (2) المطر : حبر طباعة و مواد مختلفة 41*57 سم 1995 .نجد أن فتحي عفيفي قد أعاد اكتشاف موقف المطر ، فالمطر في الأحياء القديمة أو في الريف يحمل صبغةً بها الكثير من الحزن و الشجن و الخوف ، فرحة العيال و أهازيجهم تختلط بالخوف من تعطل الحركة أو امتناعها من جراء الأوحال في الطريق ، خطر البرد و الانهيار حيث الأسقف الفقيرة لا تعرف العزل ، و ليس لها وجاءٌ من غوائل الشتاء ، استخدم فتحي عفيفي نوعاً من حبر الطباعة و أضاف إليه بعض المواد الأخرى التي ساعدت على تأكيد ملمح البلل و القطرات المتلاحقة ، التي تشتد في بعض الأماكن و الطرقات الموحلة  و البيوت الداكنة التي تضارعها في قامتها المرتفعة تلك البنت الطائرة في مقدمة اللوحة و هي ترفع بساطاً ما ، يلوح عند هامات البيوت كبساطٍ سحري قديم ،يصنعُ فتحي إيقاعاً تشكيلياً من ترديد عنصر المستطيل في عمارة البيوت الفقيرة ، دون طرازٍ معماريٍ يميزها سوى رقة الحال ، و النهايات و الحواف كلها غير تامةٍ و غير حادة ، على الرغم أنها تنتمي لأشكال هندسية ، أو كانت هندسية في يوم ما ، ثم تآكلت حوافها بعد ما عصف بها الشتاء و سحقها الفقر ، لا تتكئ على عمدٍ شاهقةٍ أو كتلٍ رصينة ، بل تتكئ على بعضها البعض في زحام حميم ، يرفرف مع شعرها الممتد خلفها في نزق ، الأقواس التي تتردد بين ساقها المرفوعة كمن تتأهب للطيران و نهديها  ، و ثوبها المرتفع الذي يحركه الهواء و المطر ، و تلك التموجات التي صنعها فتحي عفيفي للبساط السحري المخضب بالوحل ، و كأنما هو غيمةٌ من صنع هذه الفتاة ، التي تلعب مع المطر حافية القدمين. و الحق أننا يمكننا أن نلمح ذلك المنحى الغرائبي في أعمال فتحي عفيفي  و الذي يمتد في معظم مكونات المنتج التشكيلي لديه بدايةً من توزيع العناصر في فراغ اللوحة ، الدراسة التشريحية لجسم الإنسان و توافقه مع طيات ما يرتديه من ملابس و توظيف حركتها مع اتجاهاتها و ظلالها ، الألوان الداكنة الدرجات الظللية و استخدامه لأحبار الطباعة و الحبر الشيني في أغلب الأحوال ،بناء المسطح التصويري لديه و اعتماده لتراكيب غرائبية في التكوين ، تحليله لعناصر الحركة المميزة لكل دور من أدوار الكتل المنبثقة من الفراغ لديه ،قدرته على اكتشاف منظور مختلف و جديد في اختياره لزاوية رؤيته لكل مشهد على الرغم من ثبات مكان الأحداث لديه و هو المصنع و ما بداخله من عنابر و وورش و مداخل و كبائن ، ، فوفقاً لما قاله تزفتان تودوروف فإن الخاصية المميزة للعجائبي (الفانتاستيك) كنوع فني  ، هي ذلك التردد Hesitation  و الالتباس و الحيرة و الشك الذي يتم إنتاجه لدى المتلقي    (و لدى العناصر المتحركة  داخل العمل الفني ) فيما يتعلق بالواقع المتخيل الخاص بظواهر خارقة أو ما وراء طبيعية. يقوم الفنان فتحي عفيفي بإبداع عناصره التشكيلية ، ذات الطابع الغرائبي ، الذي يشحذ إمكانات لا نهائية من التلقي التشكيلي المفتوح على آفاق غاية في الرحابة، حيث يبدأ المشاهد أثناء مواجهة اللوحة و التعامل معها بصرياً من خلال ما أسماه كوليردج “بالإيقاف المؤقت لحالة عدم التصديق Suspending disbelieve ” أي  تقبل الأحداث الخارقة التي يقدمها لنا فتحي عفيفي و مخلوقاته الصناعية بوصفها أعمالاً خيالية لا ينبغي أن نحكم عليها من خلال العقل النقدي المنطقي ،بل تقبلها كعالم جديد بمنطق جديد  و إلا ضاعت متعة التلقي لها”[3] اللوحة رقم (3) هيا إلى العمل :110*90سم ، ألوان زيتية على سيلوتيكس،مقتنيات متحف الفن الحديث بالقاهرة ، 1995 .يستخدم فتحي عفيفي إمكانيات المسطح السيلوتكس التي تمنح الألوان ملمساً يقع في درجةٍ متوسطة ما بين الخشونة الحبيبية و النعومة المصقولة ،يضع شخوصه الثلاثة في الصدارة و يصنع انحرافاً متعمداً في النسب الخاصة بالجسد البشري ،و تؤول لديه مكونات الزي الذي يرتديه الرجال في الشتاء إلى مجموعة متنوعة من أشكال تقترب من شبه المنحرف أو الاسطوانات المشوهة ، حواف السترات و أعناق القمصان و التواءاتها التي توحي بالقدم و كثرة الاستعمال و المبالغة في أحجام الأحذية و التماثل في الوجوه ،و كأن المصنع الذي ينتج نمطاً كمياً متماثلاً من المنتجات الحديدية الصماء ، قد صبغ الوجوه بالوجوم و الآلية و النمطية نفسها ، في صباحات الشتاء المتجهمة المترقبة لصوت الآلة و هي تختم البطاقة بميعاد الحضور ثم ميعاد الانصراف ،علامة بسيطة في الخلفية تشي بوجود الآلات ، الجريدة الصباحية المطوية و حزمة الجرجير المصاحبة لوجبة الإفطار ساعة الراحة ،هذا التكوين الإيقاعي المهيب الذي يصنعه هؤلاء العمال الثلاثة على سطح اللوحة ، التقطه فتحي عفيفي من منظرٍ يتكرر آلاف المرات كل يوم ،و هو التفكير الافتراقي أو الإبداعي أو التغييري الذي تحدث عنه جيلفورد في النسق الذي قدمه للعقل البشري و العمليات أو النشاطات العقلية التي يقوم بها من حيث نتيجة المعلومات و تطويرها و الوصول إلى نواتج جديدة من خلال تلك المعلومات المتاحة لدى الأفراد ،و يصنع فتحي عفيفي  لنا وحدات تشكيلية متفردة من عناصر يومية دارجةو يقسمها إلى فئات جديدة يتفق عليها مع المتلقي للوحاته كلغة سرية بينهما ، و يدخلها كذلك في علاقات جديدة مع بعضها و مع الوحدات المرافقة لها داخل النسق المغاير الذي ابتدعه في هذه اللوحة، ليحولها أو يقودنا نحو عمليات تحويلية تتمخض عنها رؤيا جديدة متكاملة لكل ما كنا نظنه عادياً أو متكرراً.و ذلك ما نراه في اللوحة رقم ( 4)الدخول إلى المصنع : حبر شيني + كولاج ،39*54 سم  ، من مقتنيات د. محمد حسني.و التي تنتمي لنفس النسق. و في لوحته رقم (5) الورشة : رسم بالحبر الشيني ،80*60سم ،و هي من مقتنيات د. محمد حسني حيث يتجلى لنا هذا المنطق الغرائبي في تناول الموضوع  ، حيث العين التي تلتقط زاوية المنظور للرسم تقبع معلقةً في منطقةٍ غير متوقعة و هي كالكاميرا التي يتم تثبيتها في  أعلى نقطة للعنبر فوق الكتل الخرسانية و المواسير المعدنية و الكمرات الحاملة للسقف و فوق الاسطوانات المتداخلة المتشابكة التي صنع منها فتحي عفيفي غابة متشابكة، و منحها بقلم الرسم بالحبر شيئاً من الخشونة و النمنمة في ذات الوقت ،كل نقطةٍ تصنعُ أثراً مجاوراً و مغايراً ، حتى تكتمل الدهشة بل و الرهبة المصاحبة لتلقي ذلك المشهد المهيب من أعلى، حيث يبدو الناسُ منسحقون منحنون ، أثقلت أعناقهم المسيرة الحتمية للحياة في مثل هذا المكان الآلي الذي يدعونا الفنان لتأمله و الإعجاب به ،أم للثورة على صيرورته الجبارة في سحق التفرد البشري ،و يبرز فتحي عفيفي معنى  “الغريب الموحش الذي يتمثل و يتجلى أيضاً في تلك الظلال الجمالية التي تعمل على تضبيب أو تغبيش الحدود الخاصة بمحاولاتنا لتمثيل الخبرة ، ومن ثم يظل هذا الإحساس موجوداً هنا ساكناً في مناطق الحدود ، حدود الخبرة و الإدراك و العقل و الخيال . و في لوحة رقم (6) الوردية : حبر شيني ، 50*70 سم ،مقتنيات د. محمد حسني، نستطيع أن ندرك كيف يصور لنا فتحي عفيفي معنى كلمة الوردية التي سمى بها لوحته ،تلك الكلمة التي توحي بالتكرار و الانتظام و الإيقاع الزمني المتواتر، حيث تمر عجلةَ اليوم في المصنع في شكل لا يتوقف من التسليم و التسلم ، نسق من التكرار الصارم الدقيق الممتنع على أي شكل من أشكال التغيير أو التجديد ، لدرجة قد تصل بالإنسان المنضوي تحت هذا النظام إلى التشوه و الانسحاق ،نرى فتحي عفيفي و قد صور بالحبر الشيني كائناً حديدياً ضخماً يشبه مثقاباً هائلاً أو الجزء الذي يحوي مكوك ماكينة الخياطة ، لكنه مضاعفٌ لآلاف المرات، بحيث يبدو كمسخٍ هجين له رأس و قاعدة راسخة بقوة في أرضية المكان البيضاء . يتعمد فتحي عفيفي تكرار ذلك الكائن بشكل كثيف في اللوحة و عند رأسه تنبعث سحابات دخانية كثيفة مقبضة و عند قاعدة كل كائن منها ، يسكن العامل البشري المسئول عن تشغيل ذلك الوحش الحديدي المخيف،التكرار يصنعُ إيقاًعاً بصرياً و يحل المسطح التصويري بشكل موفق ، يبدو و كأنه سوف يظل يتكرر إلى ما لا نهاية ،و يستمر حتى يخرج إلى ما وراء حدود المسطح التصويري و الإطار ،و يمتد حتى يكاد يلتهمنا معه في صيرورته الدائبة. هذا الأسلوب في صياغة وتشكيل عناصر العنبر و التركيز على مصطلح له علاقة بالزمن و هو “الوردية” في تسمية اللوحة  و هو ما يجعل عمليات التشكيل التي تتم في أثناء التذوق الجمالي للعمل الفني و ربط العناصر المميزة للفنان فتحي عفيفي بالخبرات السابقة لدينا و التي تكمن في ذاكرتنا البصرية عن (المصنع-الوردية-الآلات) ، هذا الأسلوب يخلق إمكانيات عديدة و متجددة  قابلة لإحداث عمليات من الاضطراب و التمزق و التفكيك أثناء تلقي العمل الفني و مواجهة المفارقة  الناتجة عن خلخلة الصور الذهنية المسبقة لدينا عن المصنع و الآلات و ذلك التناول المتفرد الذي يقوم به فتحي عفيفي. فيما يشبه النقد و السخرية و التهكم من الكيان الصناعي الخالي من الحياة و الذي يحتوي كل المكونات المخالفة لمكونات المبدع المجدد الثورية و الابتكارية لدى فتحي عفيفي.و في لوحته رقم (7) بداية الوردية : حبر طباعة + كولاج ،39* 95سم 1995 نستطيع أن نرى بوضوح ما أطلق عليه “جيلفورد” مصطلح الأصالة فالفرد في رأيه يكون أصيلاً بمقدار عدم شيوع استجاباته على المنبهات، التي يتعرض لها ، فالأصالة هنا تعني القيام باستجابات غير معتادة أو غير مألوفة ، أو القيام بتداعيات بعيدة لأفكار أو موضوعات معينة، ففي هذه اللوحة نجد أن فتحي عفيفي ، يتناول لحظة بداية الوردية من منظور مختلف تماماً ، حتى أنه مختلف عما قدمه فتحي نفسه في أعماله السابقة التي تناولت نفس اللحظة،فلقد استبدل منظور الطائر الذي يقبع في سقف المصنع ، بمنظور الصغير الذي التحق حديثاً بهذا الكيان الصناعي الهائل، و لازال كل شيء حوله يرهبه و يزرع في نفسه الحيرة و التأمل و الرهبة، هذا العامل الذي يتأبط الجريدة اليومية ،يعطي للمشاهد ظهره و تتضح بعض الأجزاء من “مانشيتات” الصحافة في ذلك الوقت ، تحمل إشاراتٍ للرأسمالية الجديدة التي اتصف بها عصر العولمة ، يبدو مدخل العنبر هنا من زاوية غرائبية حيث تقع نقطة الزوال في مركز اللوحة تقريباً أمام جزع الرجل ، فنحن نرى أرضية المدخل ببلاطاتها المصفوفة و نرى بعض ملامح الماكينات العملاقة بشكل جانبي و كذلك نرى سقف العنبر و الكتل الخرسانية و الحديدية و المصابيح المدلاة و اللوحة آخذة في الغوص بنا نحو قلب هذا الكهف الصناعي المجهول. يتميز فتحي عفيفي في رأيي بالطلاقة fluency  و هي تعني قدرة المبدع على إنتاج أكبر قدر ممكن من الأفكار الإبداعية ،و نحن هنا نرى هذا الكم المتسم بالثراء و التنوع و الامتلاء بالشعرية ،التي تنتج من موهبته الخالصة و كذلك من قدرته الفذة على الإحساس بالمشكلات أو  الثغرات أو مراكز الخلل الكامنة في العالم الذي يحيط به ، و هو المصدر الذي يستقي منه مفرداته ، و كرس له تجربته الفكرية و الإبداعية ، فهو يتغنى به و يؤمن بقيمته ، و هو أيضاً ينتقده بحدة و طرافة لافتة.و في لوحة رقم (8) الإنسان : رسم بالحبر الشيني ،50 *70 سم ،مقتنيات د. محمد حسني يقدمُ فتحي عفيفي صورة الإنسان / الآلة ، هل انطمس معنى الإنسانية في صرامة الآلية ؟ أم اكتسبت ابعاداً جديدة ؟ ربما كان فتحي عفيفي يقدم لنا نموذج العالم الجديد فيما بعد الحداثة ، صياغةٌ جديدة للسيطرة على الأرض ، يتكون هذا المخلوق من مئات الهياكل المعدنية السوداء التي رسمها الفنان بالحبر الشيني و هي تتردد بين شكل الرأس البشري تارة و المثقاب الحديدي الضخم تارةً أخرى، اقتطع فتحي عفيفي قمة رأس هذا الإنسان ، لم تستطع الآلات و الإنتاج الكمي ولا الاستهلاك المجنون أن تصنع له رأساً ، يميل الفنان إلى الصياغة النحتية التي تكرس الوحدات المتراصة بعناية و اهتمام بمنظورٍ تصويري خاص ، يخضع لقواعد داخلية في العمل ذاته ،ففي طيات التكوين البشري الكبير يوجد أناسٌ متناثرون في الفراغات المضيئة بين التفاصيل، تمت مراعاتها ببراعة.  في اللوحة رقم (9) المسماة الراحة: رسم بالحبر الشيني ، 50*70 سم ،1989 ،نجد تكاملاً تكوينياً ناتجاً من عمليات من التآلف و التعاون بين عشرات من النماذج المتكررة لنفس التكوين الحديدي للآلة المتخيلة التي يعطيها فتحي عفيفي شكلاً يشبه المثقاب أو الماكينة المستخدمة في الخياطة ،مع قاعدة مستعرضة راسخة في أرضية الشكل ، و إلى خلفية هذه التكرارات يستند العامل ممسكاً بكوب و رأسه تميل إلى الخلف كمن يرتاح ،و يبدو إلى يمين اللوحة كائن بشري في الظلال المعتمة ، يقوم فتحي عفيفي بخلق تلخيص كلي لفكرة العنبر الهادر بالماكينات تتفاعل فيه عشرات العناصر الصماء مهيمنة على المشهد في نمط واحد متسق متماسك ، يلعب فيه اللون الأبيض دوراً أساسياً في إضاءة التكرارات و تأكيدها. و هنا يذكرنا فتحي عفيفي في لوحته هذه بقوانين رسكن  J.Ruskin و التي تتجلى هنا في تكوين تكراري يتبع قاعدة تخلق نوعاً من الترابط بين هذا العنصر الالي الذي ابتكره و بين العنصر البشري ، ذلك الواقع تحت أسر المصنع و آلاته و عالمه الجامد الهادر، مع استمرارية حولت الظلال و التجريد إلى نوعٍ من الغنائية الإيقاعية في النهاية و أخذت ترتحل بعين المشاهد نحو العمق بزاوية قطرية في اللوحة. و في لوحة رقم (10) نهاية الوردية :حبر شيني  ،50*70 سم،من مقتنيات د. أحمد نوار ،القاهرة ،1992 ، يقدم الفنان فتحي عفيفي في هذه اللوحة معكوساً مفاهيمياً و تشكيلياً للوحته المسماة بداية الوردية ، حيث نرى العامل في نفس الهيئة التي يعطينا فيها ظهره و يتوجه نحو بوابة الخروج من العنبر ، يغوص في ضوء الصباح ، تكاد تختفي هامته من أثر الضياء، يحمل لفته المعهودة و يرتدي حذاءه الآمن الغليظ ،لا يواجهنا فتحي عفيفي هذه المرة بتفاصيل البناء و السقف و الأرضيات و الكتل الغرائبية المتشابكة، بل يسعى إنسان فتحي عفيفي نحو الحياة ، بعد أن أتم مهمته. في اللوحة رقم (11)  – المدير – مطلوب بياناتها –  يعود فتحي عفيفي  لاستخدام المنظور الغرائبي ، فها هو يضع عين الطائر فوق هيكل العنبر العلوي عند السقف ، و يرى بزاوية قطرية تبدو فيها كتل البشر مندغمة في بعضها ، غائمة قاتمة تحت هيمنة الفرد المراقب في هيئة استعلاء ،المشرف عليهم من كابينة في الدور العلوي من العنبر، الآلات تحيط بهم من كل صوب ، كتلٌ منتفخةٌ بالوحشة ، و زحامٌ قاهرٌ في رهبةٍ مقبضة ، يؤكدها طغيان الكتل المستطيلة السوداء على قمة المشهد ،و كأنها سوف تنهار فوق رؤوسهم بعد قليل، يصنع علامة الصليب، و هو مائلٌ ، تكاد الأرض تميدُ بهؤلاء المنسحقين وسط الآلات ،و كأنهم مساقون إلى مصيرٍ مؤلم ،متوحدين مع برودة الحديد و غلظته ، متقولبين حد الموات. لا زالت التفاصيل حاضرةً بقوة ،ففتحي عفيفي يصور بمنتهى الدقة و الأمانة ، كل مكونات هذا المكان الصارم ، لقد اكتشف الفتى الذي دخل المصنع في الثامنة عشرة من عمره ،تلك الحتمية القاسية التي تحكم العالم الرأسمالي الجديد،هذا التشيؤ المحض ، الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن بلا هوية ،إلى رقمٍ ينتمي لهيكلٍ حديدي ضخمٍ يشغلُ فراغ هذا الكهف الغرائبي القديم، وحوشٌ من سوادٍ ، وجومٌ و انتظار ،استلابٌ فادح تحت وطأة الكيان المهيمن.زاويةُ ميل الكتل الحديدية التي تشبه الكمرات الحاملة للأسقف تتجه لأسفل ، تزيد من وطأة الثقل البصري للونها الأسود، تقاطع خطي الصليب أيضاً يزيد من قتامة الموقف، مشهدٌ يبدو بلا نهاية ،و لا منفذ للضوء ، و كأن هؤلاء التعساء سيبقون هكذا إلى الأبد في قبضة القهر. تتجلى في لوحات فتحي عفيفي عمليات التشظي للمعنى عبر التفاصيل و المكونات الدقيقة و اللحظات الدورانية القاهرة في خضم حياة المصنع –استلام الوردية و تسليم الوردية ثم استلامها و هكذا – إحساس ما بقوة أو طاقة  ، تعمل على تمزيق المعنى  تحت وطأة الثبات ، حتى عندما نحاول أن نقبض على هذه القوة أو نفهمها أو ندرك معناها تنفلت في غوايةٍ مقلقة .ترتبط الغرابة بالفجوة أو الثغرة الموجودة ما بين الحضور و الغياب ، و المكان و الفراغ  ، أو المسافة الموجودة داخل الذات و الوعي ، هي أيضاً مكان الصور ، و ما أشار إليه بودلير عن إعطائها الامتلاء المتخيل الخاص بالحضور .[4] في اللوحة رقم (12)- ناس كتير  في فراغ – مطلوب بياناتها نرى الفنان فتحي عفيفي و قد خرج بالعين المراقبة الناقدة من أسر المصنع ، و لكنه مازال في تراتبية الزمان الصناعي ، الموسوم بهيئة الحياة الدورانية الطاغية ، حيث اللحظات الحبلى بالمعنى و القيمة ، هي تلك اللحظات التي تطوف حول المصنع ، منه يبدأ و إليه يعود ، الزمان لا ينقسمُ لأيامٍ و ليالٍ و فصول ؛ بل يكون الزمان في عالم المصنع هو الورديات الثلاث ، تلك الحركة النابضة ، هي في حركة الجموع المتكتلة في فرحةٍ طفولية و ثنائياتٍ دائمة ، بين الإنسان العامل ذو السترةِ النمطية و الحذاء الآمن و بين دراجته ، وسيلته في العودة إلى الحياة ، كإنسان لا ككيان ثانوي ملحقٍ بالوحوش الحديدية الصارمة. لوحة رقم (14) قاعة أفق – مطلوب بياناتها- الولد و البنت ، لأول مرةٍ في هذا المعرض ، يخرج بنا فتحي عفيفي إلى الطبيعة ، و لكنها ليست طبيعة منتميةً إلى زمانيةٍ أو جغرافيةٍ بعينها ، و إنما هي مكانٌ مطلقٌ في الكون ، فتاة و حبيبها ، طيورٌ تحوم في فضاءٍ ممتد ، في خلفيةِ اللوحة مصدرٌ خفيٌ  يضيء المدى ، ربما القمر، لكنه لا يبدو لنا من هذه الزاوية التي نقف فيها أمامهما و هما يتناجيان ، يحملُ كلٌ منهما ملامح الآخر ، يرتديان بسيط الثياب ، يقتسمان الونس و الحياة ،يقدمُ لها طائراً،و هي تلتفت إليه و على كتفها حط طائرٌ صغير، الأشجار عارية ،تنتظر الربيع، و المشهد يكتنفه الغموض و الشجن ،و بعض الأمل. هو أسلوب فتحي عفيفي الذي يمتاز به في سلاسةٍ و رفق ، فإن الأسلوب هو الرجل ذاته ” .ويشير ناقد الفن التشكيلي سبيد H. SPEAD إلى أن ” الأسلوب الجديد ” يعتمد على الفكرة الواضحة لما يريد المرء أن يفعله ، إنها أقصر الطرق الموصلة إلى الهدف المرجو .. فالأسلوب هو الرجل ” أو الإنسان ” كما قال ” بوفون ” ، وروعة أسلوب الفنان وقيمته ستعتمدان على الرؤية العقلية الموجودة بداخله ، والتي يسعى من أجل توصيلها بوسائله الخاصة . وكان بيكاسو يقول ” تتطلب ” الموضوعات المختلفة أساليب مختلفة ، وهذا لا يتطلب بالضرورة تطوراً او تقدماً ، ولكنه يتطلب أساساً وجود اتفاق بين الفكرة التي يريد المرء التعبير عنها،  ووسائل التعبير عن هذه الفكرة.[5] حيث يتضح الأسلوب المميز له في تصوير تشريح الجسد البشري، الكتفين العريضين ، انبثاق الرقبة من الترقوة بشكل شجري ،الصقل باستخدام ملمس المسطح التصويري، الإضاءة غير المباشرة، الزهد في كميةِ اللون و التفاصيل، على عكس اهتمامه بتفاصيل المصنع ، لوحة رقم (13) المدير جالساً في الكابينة العلوية- مطلوب بياناتها – يتناول فتحي عفيفي شخصية المشرف أو المراقب (رئيس الوردية أو المدير) ، حيث يستند إلى أحد أعمدة الكابينة العلوية بسترته الرسمية ، و هو يراقب العمال في مرحلةِ انتهاء الوردية و الخروج ، تقع إلى جواره مجموعة اسطوانات ، يقبع  خلفها وجهٌ بشريٌ ينظر في وجوم ، من بين أعمدة الكابينة،مشهدٌ تقليديٌ يعرفه كل من عمل بمصنعٍ كهذا ، يسقط فتحي عفيفي رسوخ فكرة الحياة الصناعية الرتيبة الصارمة ، على كتلة جسد الرئيس ، و كأنه أحد الأعمدة التي يستند إليها العنبر ، فهو يلتصق بكتلة العمود، و يكون الجانب الأيمن من اللوحة بكيانه المهيمن المكرس،في المقابل لكتلته ، كتلة أخرى مكونة من عدة أسطوانات قاتمة ، وحداتٌ متراصة في مدخل الكابينة تفصل الرجل القابع في الظل ،عن جموع البشر المسيرين،هم يذهبون و يجيئون ، و هو قابعٌ في عليائه العابسة، هناك مقابلة بصرية بين قطع الحديد الاسطوانية ، و قطع العمال البشرية التي تتحرك على الأرض . يستخدم فتحي عفيفي تقنيةً غاية في اليسر ، و غاية في التعقيد رغم ذلك و هي تلك التقنية تحدث عنها شكلوفسكي و التي أطلق عليها نزع الألفة عن المألوف ، على نحو دائم ، و ذلك لأنه بقدر ما يصبح الإدراك اعتيادياً ،بقدر ما يصبح آلياً ،و إن إحدى وظائف الفن الأكثر أهمية أن يواجهنا بصدمة ما ، حتى لا نعود مجرد ضحايا للعادة ،فالتقنية الإبداعية التي يمارسها فتحي عفيفي  على خامته كالصائغ الحاذق تكمن قوتها في أنها تجعل الأشياء غير مألوفة ،و الأشكال مبهمة كي تزيد من صعوبة الإدراك و من دوام مدة بقائه ،في تجربة ذهنية ممتعة و مطربة للمتلقي ،و الحق أن بعض علماء النفس الذين درسوا الإبداع الفني ، رأوا أن فعل الإدراك في الفن هو غاية ، في ذاته ،و يجب أن يمتد و يستمر و أن خبرتنا بعملية التركيب في الفن هي موضع الاعتبار لا الناتج النهائي لجهد الصياغة. اللوحة رقم (15) الحركة في العنبر – مطلوب بياناتها- في هذه اللوحة نكاد نستمع إلى صوت الحركة الدائبة في العنبر،يقدمُ فتحي عفيفي تعبيراً تشكيلياً نموذجياً عن قيمة الإيقاع البصري ، و تماسك الفراغ ، و الاتزان التشكيلي ، و الاقتصاد المحكم في استخدام العناصر ، و مناسبة الكتل المنتشرة للفراغ ، حيث يتماوج عشرة من العمال في تنويعات طريفة جداً ،لأنواع الحركة داخل العنبر ،مما يخلقُ نغماتٍ متتالية تسري في اللوحة بلطف، فهذا عاملٌ يحملُ اسطوانة و في المقابل عاملٍ مثله ، لكن فتحي عفيفي يغير من مواضع الثقل الكتلي ، ويبدل مواضع بدء الحركة و نهايتها ،و اتجاه الاسطوانات المختلفة. كذلك هناك عدة اسطوانات و براميل ،ملقاة في الطرقات بشكل متنوع ، يستكمل به الفنان العزف ،في مواجهة هذا الشريط الراقص من العمال و الاسطوانات و المكعبات ، الذي يتماوج أمام أعيننا ،نجدُ البوابات و العمال في الجزء المواجه لها ،و المشرف الجالس على مكتبه، و الإضاءة تنبعث من خلف الشبابيك و البوابات ، حيث يمتد شريطٌ آخر من ثيماتٍ مقابلةٍ من االأعمدة الخرسانية ، و قضبان النوافذ ، و الجدران ، و الممرات في مقابلٍ تشكيلي جيد ، لعمليات الحركة و التنوع التي صاغها الفنان من قبل، و يبدأ درجةً مختلفةً من العزف ، لكنه هذه المرة يعزف بقيمة المستطيل ،و كمية الضوء المنبعثة و المختلفة باختلاف مساحة الفتحة المعمارية التي تحمل المسطح كله في حركةٍ جليلةٍ هادرة ،نحو الخارج المفتوح بصرياً و تأويلياً. هذا الأسلوب في البناء التشكيلي الذي يتصفُ بالتماسك Coherence وتتعلق هذه الخاصية بالسهولة أو المرونة التي تتم بها عملية التنظيم أو التشكيل ، أو تكوين البيئة الخاصة .فالقدرة على تنظيم ما يراه فتحي عفيفي من بشر و كتل صماء ،  إلى وحدات قليلة متماسكة قابلة للتحديد هي أمر حاسم هنا ، وصلاحية عنصر معين –البشر، الاسطوانة ، المكعب ، متوازي المستطيلات -فى ضوء المشهد الكلي هو جانب مهم من جوانب التماسك . وكذلك ، فإن تكرار عرض الوحدة البصرية الأساسية نفسها ( العامل مثلا ) مع تباينات قليلة ، فى كل مرة ، يساعد على تشكيل المشهد داخل العنبر الصناعي  و يسهل عملية إدراكه ، و وأما عملية التركيبComplexity  وهو أحد المكونات الأساسية فى عمليات الانشغال أو الاندماج التي تحدث في عقل المتلقي ، وهو يتضمن تقييما لما إذا كان هناك شيء ما يتسم بالثراء والتنوع – فى المشهد المصور – يستحق أن يكون المرء خريطة معرفية عنه ، أو يكون مشغولا به”[6] أي يكون العمل الفني جديراً بعملية التذوق.      
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights