زهرة الكركديه الأرجوانية…. تأليف: تشيماماندا نجوتسي أديتشي….  ترجمة: أحمد هريدي

أحد السعف

0
لحظة أن ألقى بابا بكتاب القداس بقوة في اتجاه جاجا في حجرة الطعام، وكسر التماثيل الصغيرة داخل رف الخزانة الخشبية، بدا الأمر وكأن كل شيء في المنزل آخذ في الانهيار. لم يكن شقيقي جاجا قد ذهب إلى القداس، ولم يتناول القربان الرباني، وكنا قد عدنا للتو من الكنيسة. وضعت ماما سعف النخل الأخضر المرطب بالماء المقدس على طاولة المائدة، وصعدت الدرج لكي تغير ملابسها قبل أن تقوم في وقت لاحق بصنع صلبان من السعف الأخضر، لتعلقها على الحائط بجانب إطار مذهب يحيط بصورة فوتوغرافية لأفراد العائلة، ولتظل صلبان السعف هناك في مكانها حتى أربعاء الرماد، أول أيام الصوم الكبير، وعندئذ نأخذها إلى الكنيسة لإضرام النار فيها وتتحول إلى رماد.
اعتاد بابا في كل عام ارتداء عباءة رمادية طويلة كبقية الذين نذروا أنفسهم لخدمة الكنيسة، والمساعدة في توزيع رماد صلبان السعف، بقيامه بالضغط بإبهام يده المغطاة بالرماد على جبين كل شخص بالصف الذي يتحرك أمامه ببطء والحرص على ترك أثر رماد الصليب ظاهراً على الجبين، أثناء قوله: من التراب وإلى التراب نعود.
يحضر بابا قداس الكنيسة، ويجلس في الصف الأول من صفوف المقاعد الطويلة، عند الطرف المجاور للممشى الأوسط، وإلى جانبه تجلس ماما وجاجا وأنا، ويكون هو أول من يتناول القربان الرباني، ساجداً أمام المذبح الرخامي، ومغمضاً عينيه بشدة تجعل قسمات وجهه أميل إلى الانقباض والالتواء، ثم يخرج لسانه إلى أقصى ما في وسعه، وبعد انتهائه من تناول القربان يعود إلى مقعده ليراقب بقية حشد المصلين المتوجهين إلى المذبح وهم يفعلون الشيء الذي علمهم إياه الأب بينيديكت، الذي بالرغم من استمراره في عمله بكنيسة سان أجنيز لمدة سبعة أعوام، إلا أن حشد المصلين لا يزالون يطلقون عليه “قسيسنا الجديد”، وربما لم يكونوا قد أطلقوا عليه هذا الوصف لو لم يكن قسيساً أبيض البشرة.تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو احمد-هريدى.jpg
لا يزال الأب بينيديكت جديداً في لون وجهه الذي لم يتحول إلى شيء من السمرة، بالرغم من لفح الرياح الجافة شديدة الحرارة المثقلة بالغبار لسبعة مواسم متتالية في نيجيريا، وفي أنفه البريطاني الذي لا يزال كسابق عهده صغيراً وضيقاً ومضغوطاً، وهو الأنف الذي جعلني منذ أول ظهور له في إنوجو في شدة القلق من عدم تمكنه من التقاط ما يكفيه من هواء يحفظ له حياته.
كان الأب بينيديكت قد غير بعض الأشياء في الأبرشية، مثل إصراره على تلاوة الصلوات باللغة اللاتينية فقط، وعدم قبول لغة الإجبو في الصلاة، والاستعانة بالتصفيق بالأيدي في أضيق الحدود، حتى لا ينال التصفيق من جلال ومهابة القداس، لكنه سمح للترانيم المصاحبة لجمع الصدقات بأن تنشد بلغة الإجبو، وهي الترانيم التي وصفها بالأغاني الوطنية، وعند نطقه كلمة “الوطنية”، كان قد طوى شفتيه المستقيمتين عند زاويتي فمه إلى أسفل مكوناً الحرف u في وضع مقلوب.
ودائماً يستشهد الأب بينيديكت بأقوال البابا أولاً ثم بابا ثم يسوع المسيح، ويستعين ببابا في الإتيان بأمثلة من الكتاب المقدس، كقوله في يوم أحد السعف: عندما نهدي ضياءنا للناس فإننا نعكس بذلك انتصار السيد المسيح. وفي يوم آخر قال: انظروا إلى الأخ إيوجين.. كان من الممكن أن يختار الشيء نفسه الذي اختاره كبار رجال المال والأعمال في بلادنا، أو كان في إمكانه الجلوس في المنزل دون أن يفعل شيئاً بعد الانقلاب، حتى لا تتهدد أعماله التجارية من قبل الحكومة.. لكنه لم يفعل ذلك، بل جاهر بقول الحقيقة في صحيفة “ذي ستاندرد”، حتى لو أدى ذلك إلى أن تخسر صحيفته الإعلانات.. لقد تحدث الأخ إيوجين دفاعاً عن الحرية، فكم منا وقف ليناصر الحقيقة؟.. وكم منا عكس في تصرفاته انتصار السيد المسيح؟
قالت جموع المصلين بصوت غير عال: “نعم.. باركه الله”، ثم أصاخوا السمع وعم الهدوء المكان، حتى أن الأطفال كفوا عن البكاء، وكأنهم بدورهم أرادوا سماع ما يقال، تماماً مثلما يحدث في بعض أيام الأحد، عندما يستمع المصلون جيداً إلى الأب بينيديكت، حتى وإن تحدث في أشياء يعلمها كل فرد منهم، مثل حديثه عن تبرعات بابا السخية للكنيسة بصناديق النبيذ المستخدم في القربان، وبأفران جديدة لإعداد خبز القربان، وبجناح جديد لمستشفى سان أجنيز الذي يوليه الأب بينيديكت أهمية كبيرة. في تلك الأثناء كنت أجلس وركبتاي مضمومتان معاً وإلى جانبي جاجا الذي يبذل جهداً لكي يبدو وجهه خالياً من أي تعبير، ومن أي أثر لكبرياء، لأن بابا دائماً يؤكد لنا الأهمية البالغة لفضيلة التواضع.
عندما أنظر إلى وجه بابا، لا أجد فيه أثراً لتعبير أو انفعال، وهو ذات الوجه الذي بدا في الصورة الفوتوغرافية التي التقطت له عندما أثير من حوله جدل كبير عقب قيام منظمة العفو الدولية بمنحه جائزة حقوق الإنسان، وهي المرة الوحيدة التي سمح فيها لصحيفة ذي استاندرد بأن تكتب عنه، بعد إصرار من رئيس تحريرها “إد كوكر” الذي قال إن بابا يستحق أكثر من ذلك لولا أنه يبالغ في تواضعه. حول هذه الجائزة، قالت ماما لي ولجاجا: بابا لم يخبرنا بها وهو لا يتحدث إلينا عن مثل هذه الأشياء.
يظل وجه بابا خالياً من أي تعبير أو انفعال أثناء تناوله القربان من الأب بينيديكت على أثر انتهائه من مراسم القداس، ثم يعود بابا إلى مقعده ليراقب المصلين أثناء توجههم إلى المذبح لتناول القربان، وبعد ذلك يبدأ بابا بالتحدث إلى الأب بينيديكت وعلى وجهه علامات الجدية عن شخص لم يتناول القربان ليومي أحد متتاليين. ودائماً كان يطلب بابا من الأب بينيديكت أن يستدعي الشخص الغائب، لكي ينضم من جديد للمصلين، مؤكداً أن لا شيء يعوق أحداً عن القداس وتناول القربان سوى موت روحه.
– جاجا، أنت لم تذهب لتناول القربان
قال بابا في هدوء وتساؤل.. لكن جاجا أطال النظر إلى كتاب القداس فوق طاولة المائدة وقال:  خبز القربان يسبب لي ضيقاً في التنفس.
حدَّقتُ النظر في وجه جاجا.. هل فقد عقله؟. أصرَّ بابا على تناول جاجا قطعة الخبز الرباني، تلك الرقاقة الهشة بنكهة الشوكولاته أو الموز، التي تنتج في أحد مصانعه والتي يفضلها الأطفال أكثر من البسكوت.
– والقس يظل ملامساً فمي مما يصيبني بالغثيانتحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو زهرة-الكركديه-الأرجواني-تشيماماندا-نجوتسي-ترجمأحمد-هريدي.png
تحدث جاجا وهو يعلم أنني أنظر إليه في هلع بعينين تتوسلان إليه أن يغلق فمه ويصمت، لكنه لم ينظر إليّ.
– إنه جسد الرب.. لا يمكنك التوقف عن تناول خبز الرب وإلا سيكون الموت.. هل تعلم ذلك؟
كان صوته خافتاً وبدا وجهه الذي تنتشر فيه كرات متقيحة من الجلد في حجم رأس الدبوس أكثر انتفاخاً وتورماً.
– سأموت إذن
زاد الخوف من سواد عينيه اللتين تحول لونهما إلى لون قار الفحم، ونظر في وجه بابا وقال:
– إذن سأموت، بابا
بسرعة طالع ببصره كل أنحاء الغرفة، وكأنه يبحث عن برهان على أن شيئاً ما قد سقط من السقف المرتفع، أو أن شيئاً لم يكن يتوقعه سيسقط من أعلى. أمسك بالكتاب المقدس وقذف به بعيداً في اتجاه جاجا فأخطأه وأصاب الأرفف الزجاجية للخزانة التي اعتادت ماما تلميعها، وحطم الرف العلوي بما يحتويه من تماثيل صغيرة وردية اللون مصنوعة من قطع السيراميك بحجم أصبع اليد لراقصات باليه في مختلف أوضاع الرقص. تناثرت قطع السيراميك على الأرضية الصلدة قبل أن يهبط الكتاب المقدس ويحط على بعض قطع السيراميك المتناثرة هنا وهناك.
بينما كان بابا يتمايل في خطواته من اتجاه إلى آخر، لم يتحرك جاجا، ووقفتُ أنا بالقرب من الباب أرقب ما يجري. كانت مروحة السقف المثبت بها مصابيح كهربائية مستمرة في دورانها، الذي يصدر عنه صوت أجش. جاءتْ ماما في خف مطاطي يحدث صوت فرقعة مع كل خطوة تخطوها على الأرضية الرخامية. كانت قد غيرت الإزار المزين بالترتر والبلوزة ذات الأكمام الواسعة، بعد عودتها من قداس الأحد، وارتدت إزاراً آخر وقميص تي شيرت أبيض طُبع على نسيجه في منطقة الصدر المتهدل عبارة “الله محبة”، وهو القميص الذي أُهدي إليها في إحدى المناسبات الدينية التي حضرتها برفقة بابا. حدَّقتْ النظر في القطع المتناثرة للتماثيل المكسورة على الأرضية، ثم انحنت وبدأت في التقاطها بأصابع يديها العاريتين.
لم يقطع الصمت سوى طنين مروحة السقف التي لم تحرك أي ساكن للهواء بغرفة الطعام بحوائطها البيضاء التي حال لونها، وإطارات الصور الفوتوغرافية للجدّ المعلقة، وطاولة الطعام التي أكاد أراها تندفع نحوي وتطبق على أنفاسي.
– اذهبي وغيّري ملابسك
فاجأتني ماما بكلماتها الهادئة خفيضة الصوت بلغة الإجبو.. ودون أن تتوقف لتلتقط نفساً، وجهتْ حديثها إلى بابا “الشاي يبرد”، وإلى جاجا “تعال ساعدني”.
جلس بابا إلى الطاولة واحتسى شايه من طقم شاي خزفي من صنع الصين، يتألف من إبريق وسكرية وأكواب على حوافها رسومات زهور قرنفلية اللون. انتظرتُ منه أن يطلب مني أنا وجاجا أن نحتسي رشفة من كوب الشاي، كما كان يفعل دائماً، تلك الرشفة التي أسماها “رشفة الحب”، لأنك تشارك الناس الذين تحبهم في أشياء صغيرة تحبها. يقول بابا “خذ رشفة الحب”، وعادة ما يحتسيها جاجا أولاً، ثم يأتي دوري، فأمسك بالكوب بكلتا يدي وأرفعه إلى شفتي، وأحسو رشفة شاي يكون في العادة ساخناً جداً، ودائماً تلسع سخونة الشاي لساني، لسعة أتضرر منها إذا تناولتُ طعاماً به بعض التوابل الحريفة. كنت أعلم أنه إذا ما لسعتْ رشفة الحب لساني، فإنها ستشعل في المقابل من حب بابا لي، لكنه قبل أن يرفع كوب الشاي إلى شفتيه، لم يقل “تناولي رشفة الحب” ولا أي شيء آخر.
انحنى جاجا بجانب ماما، وفرد صفحات النشرة الدورية التي تصدرها الكنيسة، وبدأ يجمع بداخلها قطع السيراميك المكسورة، وقال: انتبهي ماما حتى لا تجرحي أصابعك.
جذبتُ بشدة وشاح الكنيسة الأسود الذي أتلفع به، لكي أتأكد أنني لم أكن أحلم.. لماذا إذن جاجا وماما يتصرفان وكأنهما لا يعلمان ما الذي حدث تواً؟.. ولماذا يحتسي بابا شايه بهدوء وكأن جاجا التزم الصمت ولم يراجعه فيما قال؟.. استدرتُ ببطء وصعدت الدرج لأغيّر ثوب يوم الأحد الأحمر بآخر.
جلستُ بجانب نافذة حجرة نومي بعد أن بدَّلتُ ملابسي. كانت شجرة الكاجو قريبة جداً إلى حد أنني أستطيع لمس أوراقها وثمارها الصفراء الشبيهة بأجراس صغيرة تتدلى في تكاسل جاذبة إليها أزيز النحل الذي يرتطم بنافذتي. أصختُ السمع إلى بابا وهو يصعد الدرج إلى غرفته ليأخذ قسطاً من نوم قيلولة الظهيرة. أغلقتُ عينيّ ولذت بالسكون في انتظار استدعائه جاجا وذهابه إلى غرفته. لكن بعد دقائق من الصمت، فتحت عينيّ وأسندت جبيني على العوارض الخشبية المنحنية للنافذة لكي أنظر إلى الخارج.
كان فناء منزلنا فسيحاً يتسع لرقصة جماعية يؤديها مائة شخص، ويفسح المجال لكل راقص لكي يقوم بحركة بهلوانية في الهواء ويقلب فيها عقبيه فوق رأسه ثم يهبط على أكتاف الراقص إلى جواره. جدران المجمع السكني الذي تعلوه أسلاك كهربائية ملتفة ترتفع عالياً إلى حد لا يمكِّنني من رؤية السيارات التي تأتي إلى شارعنا وتذهب.
حلّ مبكراً فصل الأمطار، وسرعان ما نشرت زهور أشجار الفرانجيباني المزروعة بموازاة الجدران عبيرها الواهن في كل أرجاء الفناء المزين بصف من تعريشة نبات أرجواني هذبت واستوت كطاولة طعام تفصل بين الشجر المحاذي للجدران ومدخل الفناء. بالقرب من المنزل تزهو شجيرات الكركديه الأرجوانية ذات الأغصان الكثيفة الخفيضة، التي تعانق بعضها البعض.
كانت براعم شجيرات الكركديه الأرجوانية قد بدأت تبزغ وتتفتح على نحو متسارع، حتى إن ماما من وقت لآخر تقطف زهورها الحمراء لتزين بها مذبح الكنيسة، وفي أحيان كثيرة يعمد زائرون من بينهم رفيقات ماما في الصلاة بالكنيسة، أثناء سيرهم إلى موقف سياراتهم، إلى قطف زهور الكركديه الأرجوانية. وفي مجلسي إلى جوار نافذتي رأيت امرأة منهن تثبت زهرة خلف أذنها، ورأيت من قبل موظفين حكوميين يرتديان جاكت أسود اللون، ينتزعان الزهور بعنف قبل مغادرتهم بالشاحنة الصغيرة التي تحمل لوحة معدنية عليها أرقام حكومية، والتي لم تنتظر طويلاً بجانب شجيرات الكركديه الأرجوانية.
في وقت لاحق أخبرني جاجا أن سبب قدوم الموظفين الحكوميين هو تقديم رشوة إلى بابا، وأنه سمعهما يقولان له إن شاحنتهما ممتلئة بالدولارات الأمريكية. لم أكن متأكدة من صحة ما سمعه جاجا، لكنني فكرتُ في قوله لبعض الوقت، وتخيلت امتلاء الشاحنة برزم كثيرة من النقد الأجنبي رصت في كراتين عديدة، أو في كرتونة ضخمة في حجم ثلاجتنا بالمنزل.
كنا لانزال بجانب النافذة عندما أتت ماما إلى حجرتي. في كل يوم أحد، وقبل الغداء، في الفترة ما بين طلبها من سيسي وضع قليل من زيت النخيل في الحساء وقدر أقل من الكاري في مخلوط الأرز وجوز الهند، وبين أخذ بابا إغفاءة القيلولة، كانت ماما تقوم بتمشيط شعري. تجلس ماما على مقعد بمسندين بالقرب من باب المطبخ، وأجلس أنا على الأرضية ورأسي مثبت بين فخذيها، وبينما تقوم بتمشيط شعري وتضفيره، لا تخطئ أنفي رائحة الحساء والكاري، برغم وجود تيار هواء قادم من نافذة المطبخ المفتوحة دائماً، والرائحة النفاذة للزيت الذي تمتصه جدائل شعري القريبة من أنفي.
لكن ماما لم تأت إلى حجرتي بحقيبة بها أمشاط وزيت شعر، وتطلب مني هبوط الدرج، وبدلاً من ذلك قالت: “الغداء جاهز”. أردتُ أن أعبِّر لها عن أسفي لقيام بابا بكسر تماثيلها، ولكنني قلت:
– أنا آسفة لكسر تماثيلك ماما
هزَّت رأسها إلى أسفل بسرعة، ثم هزتها يميناً ويساراً لتبين أن التماثيل لا تعني لها شيئاً. كانت التماثيل تعني لها الشيء الكثير بالفعل، فمنذ سنوات وقبل أن أعي شيئاً، اعتدتُ أن أتعجب من قيامها بتلميع التماثيل في كل وقت. لم أكن أسمع صوت خفها المطاطي أثناء هبوطها الدرج، وكنت عندما أعلم أنها هبطت الدرج عند سماعي صوت فتح حجرة الطعام، أهبط في أثرها فأراها جالسة بجوار الخزانة وبيدها منشفة مطبخ مغموسة في ماء صابون، وتقضي على الأقل ربع ساعة في تلميع كل تمثال من التماثيل الصغيرة وردية اللون لراقصات باليه. في ذلك الوقت لم تكن هناك دموع في وجهها. وآخر مرة قامت ماما بتنظيف التماثيل وتلميعها قبل أسبوعين عندما كانت إحدى عينيها حمراء متورمة.
– سأمشط شعرك بعد الغداء
قالت وهي تستدير لتتابع مهامها. قلت: “نعم، ماما”.. وتبعتها إلى أسفل الدرج. كان بها عرج طفيف ومشية جعلتها تبدو أصغر مما هي عليه بسبب قصر إحدى قدميها عن الأخرى. وبينما أنا في منتصف انحناءة الدرج، رأيت جاجا واقفاً في مدخل الرواق، بعد أن أمضى الوقت كله في المطبخ مع ماما وسيسي، ولم يصعد كعادته إلى حجرته لكي يقرأ قبل الغداء.
سألته عن حاله، برغم أنني لم أكن في حاجة إلى السؤال، فقط كان عليّ أن أتطلع إلى وجه السبعة عشر عاماً المتوتر الممتلئ بتجاعيد متعرجة عند الجبين. اقتربت منه وصافحت يده بخفة قبل أن نذهب إلى مائدة حجرة الطعام، التي يجلس إليها بابا وماما. بعد أن أتم بابا غسل يديه في
وعاء أمامه به ماء تمسك به سيسي، انتظر حتى جلست أنا وجاجا في مواجهته، وبدأ صلاة المائدة التي استمرت عشرين دقيقة، سأل فيها الرب أن يسبغ نعمته علينا ويبارك طعامنا، ثم نادى على السيدة العذراء بألقاب مختلفة، ونحن نردد خلفه “صلي من أجلنا”. كان اللقب المفضل لديه “سيدة الشعب النيجيري وحاميته”، وهو اللقب الذي منحه إياها، وكان قد أخبرنا من قبل انه إذا ما لجأ إليها النيجيريون كل يوم، فإن نيجيريا لن تجد نفسها في يوم ما تسير في ضعف ووهن وكأنها على وشك السقوط، ولن تشبه إنساناً ضخماً يمشي على قدمين واهنتين لطفل صغير.
طعام الغداء الطيب المذاق الذي أعدته سيسي يتكون من معجون البطاطا الرقيق الهش وحساء سميك القوام من أوراق نبات أونجبو داكن الخضرة وبداخله قطع من لحم البقر ومجروش السمك المجفف. والصمت يخيم علينا أثناء تناولنا الطعام، كنت أشكل بأصابعي كرة صغيرة من معجون البطاطا وأغمسها في الحساء وأضيف إليها قطع لحم ومجروش سمك ثم أضعها في فمي. كنت واثقة من جودة مذاق الطعام، لكنني لم أستطع تذوقه جيداً.
– الملح من فضلك
قال بابا. همَّ كل منا بتلبية طلبه في نفس الوقت. جاجا وأنا لمسنا آنية الكريستال الصغيرة، وتلامست أصابعنا برفق، فترك الآنية لي ووضعتها أمام بابا. خيم الصمت ثانية على المائدة واستمر لوقت أطول.
– أحضروا عصير الكاجو عند الظهر وكان طيب المذاق.. أعتقد أنه سيلقى رواجاً
أخيراً تحدثت ماما. قال بابا:
– اطلبي من الفتاة أن تأتي به
ضغطتْ ماما على زر جرس يتدلى من أعلى المائدة متصل بسلك كهربائي يتجه إلى السقف، وظهرت على الفور سيسي:
– نعم، مدام؟
– أحضري زجاجتين من الشراب الذي أحضروه من المصنع
– نعم، مدام
كنت أرغب في أن تجيب سيسي متسائلة عن أية زجاجات أو عن مكانها، فقط لمجرد أن يستمرا في حديث يغطي على حركات جاجا المتوترة وهو يقوم بصنع كور من معجون البطاطا. عادت سيسي سريعاً ووضعت الزجاجتين بجانب بابا. كان على السطح الخارجي للزجاجتين العلامة التجارية حائلة اللون ذاتها الموجودة على كل منتجات مصانع بابا مثل رقائق ويفر، وبسكوت الكريم، وزجاجات العصير، ورقائق البطاطس بنكهة الموز. صب بابا العصير الأصفر لكل منا، فأمسكتُ بسرعة كوبي الزجاجي ورشفت رشفة. كان مذاقها أقرب إلى الماء. أردت أن أظهر حماساً للشراب، فربما إذا تحدثت عن مذاقه الجيد، قد ينسى بابا أنه لم يعاقب جاجا بعد.
– مذاقه جيد جداً، بابا
حرَّك وجنتيه المنتفختين يميناً ويساراً، وقال: “نعم، نعم”. قالت ماما:
– مذاقه يشبه مذاق الكاجو الطازج
قل شيئاً أرجوك.. هذا ما أردت أن أقوله لجاجا الذي من المفترض أن يقول شيئاً الآن لكي يشارك في الحديث، ولكي يقول كلمة مجاملة لمنتج بابا الجديد، كما كنا نفعل دائماً في كل مرة يأتي موظف من أحد مصانعه ومعه عينة من منتج جديد.
– يشبه مذاق النبيذ الأبيض
أضافت ماما التي بدا عليها شيء من عصبية يمكنني استشعارها، ليس فقط في كون شراب الكاجو لا يمت بصلة إلى النبيذ الأبيض، وإنما أيضاً في صوتها المنخفض عن المعتاد. “نبيذ أبيض”.. قالت ماما ثانية وهي تغلق عينيها من فرط المذاق الطيب.. “نبيذ أبيض بطعم الفاكهة”. وكرة معجون البطاطا تنزلق من أصابعي إلى طبق الحساء، قلت: “نعم”.
كان بابا يحدق النظر في جاجا..
– جاجا ألا تشاركنا الشراب؟.. أليست هناك كلمات في فمك؟
سأل بلغة الإجبو.. إنها علامة لا تبشر بخير، فهو من النادر أن يتحدث بالاجبو. برغم تحدثنا جاجا وأنا بها مع ماما في المنزل، إلا أنه لم يكن يحب أن نتحدث بها أمام أحد، وكان يقول: علينا أن نبدو متحضرين أمام الآخرين ونتحدث الإنجليزية.
العمة أفيوما شقيقة بابا، قالت عنه ذات مرة ان جزءاً كبيراً منه ينتمي إلى المستعمر الإنجليزي.. قالت عنه ذلك بطريقة لطيفة متسامحة وكأن الخطأ ليس خطأه، وكأنها تتحدث عن شخص مريض بالملاريا ويهذي بكلام غامض غير مفهوم.
– أليس لديك شيء تقوله، جاجا؟
مرة ثانية سأل بابا.
– لا توجد كلمات في فمي
أجاب جاجا.
– ماذا؟
في عيني بابا ظل سحابة قاتمة، هو نفسه ظل السحابة القاتمة في عيني جاجا.. هو الخوف إذن قد غادر عيني جاجا إلى داخل عيني بابا.
– ليس لدي شيء أقوله
قال جاجا. “العصير جيد”.. بدأت ماما الكلام. دفع جاجا مقعده إلى الخلف..
– شكراً للرب.. شكراً لك بابا.. شكراً لك ماما
استدرتُ وحدقت فيه.. على أقل تقدير لقد قدم الشكر على النحو الصحيح وبنفس الطريقة التي نتبعها بعد الانتهاء من الغداء، لكنه أيضاً فعل الشيء الذي لم نفعله أبداً: لقد غادر مائدة الطعام قبل أن ينتهي بابا من شعائر صلاة ما بعد تناول الطعام.
– جاجا!
قال بابا وظل السحابة القاتمة يتزايد وينتشر في عينيه، بينما كان جاجا يتابع سيره خارج حجرة الطعام ومعه طبقه. همّ بابا بالنهوض ثم عاد ليسترخي من جديد على مقعده وقد تدلت وتراخت وجنتاه.
أمسكت بكوبي الزجاجي، وحدقت في العصير الأصفر ذي النكهة غير الطيبة وتجرعته دفعة واحدة دون أن أعلم ما الشيء الذي يتعين عليّ عمله، فهذا الذي حدث لم يحدث أبداً طوال حياتي، ولذا كنت على يقين بأن جدران المجمع السكني سوف تتداعى وتسحق أشجار الياسمين الهندي، وقد تنشق طبقة السماء، وينكمش السجاد الإيراني الذي يغطي أرضية الرخام. كنت أجزم أن شيئاً ما سيحدث لكن الشيء الوحيد الذي حدث هو أنني شرقتُ بالماء، وداهمني سعال اهتز له جسدي كله، مما دفع بابا وماما إلى الاندفاع نحوي. سارع بابا بالخبط على ظهري براحة يده أكثر من مرة، بينما ماما تدلك كتفي وتقول:
– قاومي حاجتك إلى السعال يا حبيبتي
في ذلك المساء، مكثتُ في السرير ولم أتناول العشاء مع العائلة، ورغم أنني تعافيت من نوبة السعال إلا أن وجنتي كانتا متقدتين، وداخل رأسي كانت كائنات غريبة الشكل تتلاعب بكتاب مقدس مجلد بني اللون، وكل من هذه الكائنات يلقي بالكتاب إلى الآخر. حضر بابا إلى حجرتي وهبطتْ حشية السرير على إثر جلوسه عليه، وبدأ يداعب برفق وجنتي، ثم سألني ما إذا كنت أريد شيئاً. خيم علينا الصمت وأنا وماما أيدينا متشابكة. بابا الذي يتنفس دائماً بصوت عال، هو الآن لاهث الأنفاس، حتى انني فكرت فيما يشغل تفكيره ويجعله وكأنه يركض من شيء ما داخل عقله. لم أتطلع إلى وجهه، لأنني لم أرد أن أرى الطفح الجلدي الذي انتشر في كل بوصة منه حتى بدا جلد وجهه منتفخاً.
في وقت لاحق، أحضرتْ ماما لي حساءً قوي الرائحة، لكن نكهته العطرية أصابتني بالغثيان، وبعد أن أفرغتُ ما في جوفي في الحمام، سألت ماما عن جاجا الذي لم يأت ليراني منذ وقت الغداء.
– في حجرته لم يهبط لتناول العشاء
كانت تربِّتْ بلطف على شعري بداية من منبته في فروة الرأس وحتى نهاية أطرافه، مرجئة تضفيره إلى الأسبوع المقبل. شعري الكثيف جداً الذي دائماً أحكم ربطه من الخلف بعد أن تجري فيه ماما المشط لن أستطيع تمشيطه الآن حتى لا أثير الكائنات الغريبة التي تتلاعب داخل رأسي بكتاب القداس المجلد بني اللون.
شممتُ رائحة مزيل للعرق تحت إبطيها ونظرتُ إلى وجهها البني المتصدع الخالي من أي تعبير، فلاحظتُ ندوباً خشنة في جبينها لم أرها من قبل.. سألت:
– هل ستأتين بتماثيل جديدة بدلاً من المكسورة؟
قالت: “لن آتي بغيرها”. ربما أدركت ماما أنها لن تحتاج التماثيل بعد الآن.. ربما عندما ألقى بابا بكتاب القداس في اتجاه جاجا لم يكن الأمر مجرد تحطم تماثيل، بل تحطم كل شيء.. لقد أدركتُ أنا ذلك بعد أن منحت نفسي وقتاً للتفكير فيما حدث.
أرحتُ جسدي على السرير بعد ذهاب ماما، وأطلقت العنان لعقلي لكي يفتش في السنوات التي كنا فيها، جاجا وماما وأنا، نتحدث إلى أرواحنا وأنفسنا أكثر من حديث شفاهنا، حتى كانت بداية التغير في نسوكا، حيث العمة افيوما وحديقتها الصغيرة المجاورة لشرفة شقتها وكسرهما لحاجز الصمت. الآن يبدو لي تحدي جاجا الهش خفيف الصوت أشبه بتحدي زهرات الكركديه الأرجوانية ذات العبير الخافت والغامض في حديقة العمة افيوما.. ذلك النوع المختلف من التحدي الذي ينشد نوعاً مختلفاً من الحرية، ليست كتلك الحرية التي تنشدها الحشود الملوحة بأوراق الأشجار الخضراء في ساحة المباني الحكومية بعد الانقلاب.
لكن المدى الذي ذهبتْ إليه ذاكرتي لم يقف عند حد نسوكا، بل إلى ما قبلها، عندما جفلتْ وروعتْ فجأة زهرات الكركديه الأرجوانية في فناء منزلنا باللون الأحمر.
Leave A Reply

Your email address will not be published.

Verified by MonsterInsights